12- يجدر بنا ألا نتطلع إلى الله أنه خلق الإنسان بلا إرادة، أو أنه عاجز عن الصلاح، فلو كان قد سمح له بالإرادة الشريرة والقدرة على الشر دون الخير يكون بذلك قد حرمه من الإرادة الحرة، وعندئذ ماذا تعني العبارة التي نطق بها الرب مباشرة بعد سقوطه: "هوذا الإنسان قد صار كواحدٍ منا عارفًا الخير والشرَّ" (تك22:3)؟ لأننا لا نقدر أن نظن أنه كان قبلاً جاهلاً للخير تمامًا، وألا بهذا يكون الإنسان مخلوقًا غير عاقل كالحيوانات العجم، وهذا القول غريب تمامًا عن الكنيسة الجامعة.
علاوة على هذا فإن سليمان الحكيم يقول: "الله صنع الإنسان مستقيمًا" (جا29:7). بمعنى أنه على الدوام يتمتع بمعرفة الخير وحده، "أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة" (جا29:7). إذ صارت لهم معرفة الخير والشر كما كان من قبل. لقد صار لآدم بعد السقوط معرفة الشر الذي لم يكن يعرفه قبلاً، لكنه لم يفقد معرفته للخير الذي كان يعرفه.
أخيرًا تكشف كلمات الرسول بوضوح أن البشرية لم تفقد معرفة الخير بعد سقوط آدم، إذ يقول: "لأَنهُ الأممُ الذين ليس عندهم الناموس متى فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس فهؤُلاءِ إذ ليس لهم الناموس هم ناموس لأنفسهم، الذين يظهرون عمل الناموس مكتوبًا في قلوبهم، شاهدًا أيضًا ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة، في اليوم الذي فيهِ يدين الله سرائر الناس" (رو14:2-16).
بنفس المعنى ينتهر الرب على لسان النبي غير الطبيعيين، الذين اختاروا بإرادتهم عمى اليهود، وخلال عنادهم جلبوا ذلك على أنفسهم "أيها الصمُّ اسمعوا، أيها العمي انظروا لتبصروا، مَنْ هو أعمى إلاَّ عبدي وأصمُّ كرسولي الذي أُرسِلهُ؟!" (إش42: 18، 19).
وحتى لا ينسبوا عماهم هذا إلى الطبيعة وليس إلى إرادتهم يقول: "أَخرِج الشعب الأعمى ولهُ عيون والأصمَّ ولهُ آذان" (إش8:43)، وأيضًا "الذين لهم أعين ولا يبصرون، لهم آذان ولا يسمعون" (إر21:5)، والرب نفسه يقول في الإنجيل: "لأنهم مبصرين ولا يبصرون وسامعين ولا يسمعون ولا يفهمون" (مت13:13).
بهذا تتحقق نبوة إشعياء النبي القائل: "اسمعوا سمعًا ولا تفهموا وابصروا إبصارًا ولا تعرفوا، غَلِّظ قلب هذا الشعب وثَقِّل أذنيهِ وأطمس عينيهِ لئَلاَّ يبصر بعينيهِ ويسمع بأذنيهِ ويفهم بقلبهِ ويرجع فيُشفَى" (إش9:6، 10).
أخيرًا لكي تدرك أن إمكانية الصلاح كانت موجودة فيهم يوبخ الفريسيين قائلاً: "ولماذا لا تحكمون بالحقّ من قِبَل نفوسكم؟" (لو57:12) وهكذا ما كان يقول الرب هذا لو لم يعلم أنهم بحكمهم الطبيعي قادرون على تمييز ما هو صالح.
لهذا يلزمنا مراعاة عدم إشارة كل استحقاقات القديسين إلى الرب بطريقة لا ننسب فيها للإنسانية إلا ما هو شر وعناد. وهذا ما ندحضه بشهادة سليمان الحكيم، بل وبشهادة الرب نفسه. لأنه بعد الانتهاء من بناء الهيكل، وفي أثناء الصلاة نطق سليمان بهذا: "وكان في قلب داود أبي أن يبني بيتًا لاسم الرب إله اسرائيل. فقال الربُّ لداود أبي: من أجل أنهُ كان في قلبك أن تبني بيتًا لاسمي قد أحسنت بكونهِ في قلبك. إلاَّ أنك أنت لا تبني البيت بل ابنك الخارج من صلبك هو يبني البيت لاسمي" (1مل17:8-19). فهل هذا الفكر أو هذه الرغبة التي للملك داود ندعوه فكرًا صالحًا من الله، أم شريرًا من الإنسان؟! فلو كان صالحًا ومن الله، ما كان الله يوحي له بهذا الفكر المرفوض؟ ولو أنه فكر شرير من الإنسان، فلماذا مدحه الرب؟ إذن بقي أن هذا الفكر صالح ومن الإنسان.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
هكذا يمكننا أن نتكلم بخصوص أفكارنا اليومية، فإنه لم يُوهب لداود وحده أن يفكر فيما هو صالح، إذ لا نُحرم نحن طبيعيًا أن نفكر ونتصور أمورًا صالحة. إذ لا نشك أنه بالطبيعة توجد فينا بعض بذور الصلاح، أوجدها حنو الخالق في كل نفس. لكن هذه البذور لا يمكن أن تنمو ما لم يرعها العون الإلهي، وكما يقول الرسول الطوباوي: "إذًا ليس الغارس شيئًا ولا الساقي بل الله الذي يُنمِي" (1كو7:3)...
تبقى حرية الإرادة على الدوام في الإنسان، لا نهملها ولا نغالي فيها... لأنه ما كان للرسول أن يوصي قائلاً: "تمموا خلاصكم بخوف ورعدة" لو لم يعلم أنه يمكن للإنسان أن يتقدم في الخلاص أو يهمله. لكن لا يتصور البشر أنهم غير محتاجين للعون الإلهي في عمل الخلاص، إذ يكمل: "لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته" (في13:2). وأيضًا، "لا تهمل الموهبة التي فيك المعطاة لك بالنبوَّة مع وضع أيدي المشيخة" (1تي14:4)، "أذكّرك أن تضرم أيضًا موهبة الله التي فيك بوضع يديَّ" (2تي6:1).
لهذا فإنه في كتابته إلى أهل كورنثوس ينصحهم ويحذرهم لئلا بعدم إثمارهم يظهروا غير مستحقين لنعمة الله، قائلاً: "نطلب أن لا تقبلوا نعمة الله باطلاً" (2كو1:6). لأن قبول النعمة المخلصة لم يفقد سيمون شيئًا لأنه قبلها باطلاً، إذ لم يطع وصية بطرس المبارك الذي قال له: "فتُبْ من شرّك هذا واطلب إلى الله عسى أن يُغَفر لك فكر قلبك، لأني أراك في مرارة المرّ ورباط الظلم" (أع8: 22، 23).
فالنعمة تتقدم إرادة الإنسان، إذ قيل: "إلهي رحمتهُ تتقدمني" (مز 10:59). وأيضًا يتأخر الله لأجل صالحنا حتى يختبر رغباتنا، عندئذ إرادتنا هي التي تتقدم، إذ قيل: "في الغداة (الصباح) صلاتي تتقدمك" (مز 13:88)...
وهو يدعونا عندما يقول: "طول النهار بسطت يدَيَّ إلى شعبٍ معاندٍ ومقاوم" (رو21:10). ونحن ندعوه إلينا عندما نقول: "كلَّ يوم بسطت إليك يدَيَّ" (مز 9:88 ).
وهو ينتظرنا كقول النبي: "ولذلك ينتظر الرب ليتراءَف عليكم" (إش 18:30). ونحن ننتظره عندما نقول له: "انتظارًا انتظرت الرب فمال إليَّ" (مز 1:40)، و"رجوت خلاصك يا رب ووصاياك عملت" (مز 166:119).
هو يقوينا عندما يقول: "وأنا أنذرتهم وشدَّدت أذرعهم وهم يفكرون عليَّ بالشر" (هو 15:7). ويحثنا أن نقوي أنفسنا بقوله: "شدّدوا الأيادي المسترخية والركب المرتعشة ثبّتوها" (إش 3:35). ويصرخ الرب يسوع: "إن عطش أحد فليُقبِل إليَّ ويشرب" (يو37:7). كما يصرخ النبي إليه: "تعبتُ من صراخي، يبس حلقي. كلَّت عيناي من انتظار إلهي" (مز 3:69).
الرب يطلبنا عندما يقول: "طلبتهُ فما وجدتهُ دعوتهُ فما أجابني" (نش 6:5). والعروس أيضًا تطلبه، إذ تبكي بدموع قائلة: "في الليل على فراشي طلبت من تحبهُ نفسي، طلبتهُ" (نش 1:3).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/john-cassian/conferences-13-ability-to-do-good.html
تقصير الرابط:
tak.la/xzw8hn8