يعتبر الشهيد يوستين من أهم "مدافعي" القرن الثاني، ومن أنبل شخصيات الكتَّاب المسيحيين الأولين. في كتاباته لا يقود القارئ عند مجرد باب الكنيسة كما فعل أغلب المدافعين، إنما يفتح له الباب معالجًا الأمور التي تدور في داخلها علاجًا جميلًا.
هو ابن بريسكوس باخوس، وُلد في فلافيا نيابوليس (شكيم قديمًا ونابلس حديثًا) في فلسطين حوالي عام 100 م.، من عائلة وثنية[369]، وعلى ما يظن أنها من أصل يوناني.
تعلم الفلسفة في مدارس عدة، فقد حاول أولًا في مدرسه لرجل رواقي، ثم لآخر أرسطوطاليسي، وأخيرًا عند فيثاغوري، لكن أحد هؤلاء الفلاسفة لم يقدر أن يقنعه أو يشبعه.
جذبته الأفلاطونية إلى حين حيث تبدو كأنها توضح طريق المعرفة الحقيقية للإنسان ورؤية الله، لكنه يخبرنا أنه بينما كان يسير على شاطئ البحر أقنعه رجل شيخ بعجز الأفلاطونية عن إشباع القلب، جاذبًا إياه إلى حكمة الأنبياء العميقة، إذ وحدهم أعلنوا الحق. يروي لنا القديس يوستين[370]: "عندما تحدث معي عن هذه الأمور وغيرها من الأمور الكثيرة، إذ لا يسع المجال لذكرها حاليًا، رحل عني وقد جذب انتباهي إليها، ولم أعد بعد أراه. لكن للحال التهبت نار في نفسي وتملكني حب الأنبياء وحب أصدقاء المسيح، وإذ كنت أقلب الأمور في جدية في ذهني، وجدت أن هذه الفلسفة وحدها هي الآمنة ونافعة".
لقد قاده بحثه الأمين للتعرف على الحق مع صلواته المتواضعة إلى الإيمان الحقيقي إذ يقول[371]: "إني أعترف أنني صليت وبذلت كل ما في وسعي كي أوجد مسيحيًا".
وأخبرنا أيضًا عن فاعلية احتمال المسيحيين الآلام بغير خوف في تحوله، قائلًا[372]: "فأنني أنا أيضًا إذ كنت مقتنعًا بالتعاليم الأفلاطونية، وسمعت عن ذبح المسيحيين، ورأيتهم يواجهون الموت ويقابلون الأمور التي هي بحق مرعبة بغير خوف، أدركت استحالة أن يكون هؤلاء سالكين في شر أو ملذات".
بعد هدايته التي ربما تكون قد تحققت في أفسس، كرس كل حياته للدفاع عن الإيمان المسيحي. لقد بقي من الشعب لكنه يقول: "من واجبنا أن نعلن تعليمنا"، وكان يسافر من بلد إلى أخرى يعلن الإنجيل.
زار روما دفعتين، وأوجد فيها مدرسة كان أحد تلاميذه فيها "تاتيان" الذي صار فيما بعد "مدافعًا". وفي زيارته الثانية استشهد ومعه خمسة رجال وامرأة حوالي عام 165م.
كان القديس يوستين كاتبًا خصبًا، وصل إلينا من كتاباته ثلاث نسخ تلك التي عرفها يوسابيوس[373]، وقد جاءت في مخطوط فقير واحد، عام 1364 (باريس رقم 450).
هذه الكتابات هي: دفاعان ضد الوثنية، يقدمان القيم الأخلاقية المسيحية، ومحاورة مع تريفو اليهودي تبرهن الحق المسيحي.
يعتبر يوستين أول كاتب كنسي حاول تشييد جسر بين المسيحية والفلسفة الوثنية، وهو يؤمن[374] "أن كل من يقدر أن ينطق بالحق ولا ينطق به يدينه الله".
يعتبر القديس يوستين أول من قدم لنا وصفًا كاملًا لتقديس الإفخارستيا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ففي دفاعه الأول صوَّر لنا الخدمة الإفخارستية الخاصة بالمعمدين حديثًا (فصل 65)، والخاصة بيوم الأحد العادية (فصل 67).
وفي محاورته مع تريفو (فصل 41) عرَّف الإفخارستيا بشكل واضح أنها تلك الذبيحة التي تنبأ عنها ملاخي النبي، هذا وفي مواضع كثيرة قال أنه لا مجال بعد لوجود ذبيحة دموية، فالإفخارستيا هي الذبيحة الروحية التي طال الاشتياق إليها زمانًا، إذ الذبيح هو "اللوغوس" نفسه، يسوع المسيح[375].
وأننا إذ نورد ترجمة عربية للنص نلاحظ فيها:
1. يدعو الليتورچيا بـ"الإفخارستيا" أي "الشكر". وقد كان هذا الاسم مشاعًا بين الآباء الشرقيين منذ بداية القرن الثاني[376]، هذا وقد ركزوا في التقديس على "صلوات الشكر".
2. كان القديس يوستين رجلًا كنسيًا، استخدم المصطلحات الكنسية الدقيقة مثل قوله:
أ. "هؤلاء الذين ندعوهم شمامسة"،
ب. "الطعام الذي ندعوه إفخارستيا"،
ج. "رئيس الأخوة"،
د. "الميلاد الجديد" مكررًا هذا الاصطلاح ثلاث مرات في عبارة واحدة ليوضح أن العماد هو تجديد.
3. في وصفه تقديس الإفخارستيا نلاحظ:
أ. قبلة السلام كإعداد لتقديس الإفخارستيا.
ب. تبدأ الخدمة بقراءات من العهدين القديم والجديد، تليها العظة، ثم الصلوات الإفخارستية... هذا يعني أن ليتورچية الكلمة "الموعوظين" تسبق ليتورچية المؤمنين.
ج. لا يقدر أن يشترك في الصلوات الإفخارستية اللهم إلاَّ الذين يؤمنون أن الأمور التي نعلم بها هي حق، وأن يكونوا قد نالوا غسل الخطايا والميلاد الجديد، سالكين حسب تعاليم السيد المسيح. وهو بهذا يضع شروط ثلاثة للتمتع بالتناول:
I. الإيمان
II. العماد
III. الحياة بحسب وصايا المسيح
د. روى لنا "قصة التأسيس" الواردة بالأناجيل كما أشار إلى عادة الجمع للفقراء.
ما دمنا نتحدث عن القرن الثاني، يليق بنا ألاَّ نتجاهل رسائل القديس أغناطيوس أسقف أنطاكية التي كُتبت في هذا القرن (حوالي عام 107 م.) فهو يتطلع إلى الكنيسة كجماعة أفخارستية، ويتحدث عن هذا السرّ بطريقة عابرة، لكن في منتهى القوة، بعبارات سرائرية، ملقبًا إياه جسد الرب يسوع المسيح المصلوب القائم من الأموات، والخبز المقدس دواء الخلود، وترياق الموت الروحي[377].
الإفخارستيا -كما يقول أغناطيوس- لا يمكن تقديسها بدون الأسقف أو الكاهن الذي يعهد إليه الأسقف بذلك[378].
65 -... بعد الانتهاء من الصلوات يحيي كل منا الآخر بقبلة.
عندئذ يحضرون لرئيس الأخوة خبزًا وكأس خمر ممتزجًا بالماء، فيأخذهما مقدمًا الحمد والمجد لأب الجميع باسم الابن والروح القدس.
ويشكر بشيء من الإطالة، من أجل النعم التي تأهلنا لقبولها من يديه. وإذ ينتهي من الصلوات والتشكرات يجيب الشعب الحاضر بالقبول قائلين: "آمين".
وكلمة "آمين" في العبرية تعني "هكذا يكون".
عندما يقدم الرئيس الشكر ويجيب الشعب بالقبول، يقدم أولئك الذين ندعوهم شمامسة للحاضرين نصيبًا من الخبز والخمر الممتزج ماءً الذي تُلي عليه "الشكر" أما الغائبون فيحملون إليهم نصيبًا.
66 – هذا الطعام ندعوه إفخارستيا، لا يُسمح لأحد أن يشترك فيه إلاَّ:
الذي يؤمن أن ما نعلم به هو حق،
وأن يكون قد نال الاغتسال أي غفران الخطايا والتجديد،
وأن يكون سالكًا حسبما أمرنا السيد المسيح.
فإننا لم نقبل هذه الأمور كخبز أو شرب عاديين، وإنما كما تجسد يسوع المسيح مخلصنا إذ أخذ كلمة الله جسدًا ودمًا لأجل خلاصنا، فإننا نتعلم أيضًا أن هذا الطعام الذي يتقدس خلال صلاة كلمته والذي يقوت دمنا وجسدنا بالتحول، هو جسد ودم يسوع الذي صار جسدًا.
فقد سلمنا الرسل في مذكراتهم التي تدعى بالأناجيل ما قد أُمروا به، إلاَّ وهو أن يسوع أخذ خبزًا وشكر وقال "اصنعوا هذا لذكري، هذا هو جسدي". وأيضًا أخذ الكأس وشكر قائلًا لهم "هذا هو دمي" وأعطاها لهم وحدهم...
67 – وفي اليوم الذي يدعى "يوم الشمس (الأحد) Sunday" يجتمع كل الذين في المدن والقرى في مكانٍ واحد، وتُقرأ مذكرات الرسل أو كتابات الأنبياء قدر ما يسمح الوقت.
وعندما ينتهي القارئ من عمله، يعلّم الرئيس شفاهة حاثًا على الامتثال بالأمور الصالحة التي قُرأت.
عندئذ نقف جميعًا ونصلي.
وكما سبق أن قلت أنه عندما تنتهي الصلوات، يُحضر الخبز والخمر والماء، ويقدم الرئيس الصلوات والشكر(إفخارستيا) قدر ما يستطيع ويجيب الشعب بالقبول، قائلين: "آمين".
عندئذ يتم التوزيع والاشتراك فيما قدم عليه تشكرات، أما الغائبون فيرسل لهم نصيبًا مع الشمامسة.
والذين في يسر يساهمون في العطاء قدر ما يريدون، ويودع ما قد جُمع لدى الرئيس الذي يهتم بالأيتام والأرامل والمعوزين بسبب المرض أو لأية علة أخرى والمسجونين والغرباء بيننا، وباختصار هو المدافع عن كل من هم في عوز، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. إننا نقيم هذا الاجتماع العام كل أحد، الذي هو اليوم الأول، فيه حوَّل الله الظلمة، وفيه خلق المسكونة، وفيه قام يسوع المسيح مخلصنا من الأموات.
_____
[368] See: The Dictionary of Saints.
[369] Dialogue 92.
[370] Dialogue 8.
[371] Apol 2 : 13.
[372] Apol 2 : 12.
[373] ِEcc. His.4 : 18.
[374] Dialogue 82.
[375] Quasten vol 1, 218.
[376] St. Ignatius used this name.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/jesus-eucharist/youstin.html
تقصير الرابط:
tak.la/fv4a5nk