1- التصرفات السابقة وما على شاكلتها لا تعني اتسام الجيل الجديد بالتمرد، والدليل على هذا أننا نجد هؤلاء المراهقين الذين يحملون مظهر التمّرد داخل الأسرة غالبًا ما يسلكون بروح الخضوع والطاعة للجماعة التي ينتمون إليها أو للصديق المحبوب لديهم، تجدهم في غاية اللطف والرقة خارج البيت... فلماذا يستخدمون هذا المسلك تجاه ألأسرة أو المجتمع؟
يمكننا القول بأن ما ندعوه "تمردًا" هو في حقيقته صراع داخلي من أجل الرغبة في النمو والشعور بالاستقلال والتمتع بالحرية وإبراز شخصياتهم. إنهم يصارعون بين هذه الرغبات الصادقة والأكيدة بينما لا تزال آثار الطفولة تعمل في داخلهم. يريدون التمتع بالحرية الكاملة دفعة واحدة مع عجزهم عن الالتزام الكامل من جانبهم بتحمل المسئولية. هذا الصراع ينعكس في صورة تصرفات يبدو فيها المراهقون كمن هم في تمرد ضد الأسرة والجماعة.
ما يسلكه المراهقون في شكل تمرد أشبه بصرخات تنبع من القلب تطلب تأكيد الوالدين لهم بأنهم يحترمون نموهم ونضوجهم. فمن كلمات بعض المراهقين الصريحة التي تطالب بذلك (1):
(محتاج أن أعرف أنكما تثقان فيّ وتصدقانني).
(أريد أن أرى والدين أكثر انفتاحًا على أبنائهم، ويصيرون أصدقاءً لهم...).
(أود أن تكون لهما ثقة أكبر فيّ، وأن يعرفا أنني لا أريد أن أكذب عليهما، وإنني أحبهما).
(يوجد خمسون أمرًا أود أن أقولها لوالديّ: "دعوني أنمو""تكرر 49 مرة").
2- تمرد المراهقين يحمل تأكيدًا لوجود عالم خاص بهم، له قيمه ومفاهيمه واتجاهاته وأفكاره ومشغولياته، بينما يريد البالغون أن يسحبوهم إلى عالم البالغين إما بالضغط أو السخرية أو الاستخفاف.
نذكر على سبيل المثال:
غالبًا ما تشعر الأم بشيء من المرارة حين تجد ابنتها تتسلل إلى حجرتها
الخاصة وتطلب صديقتها تليفونيًا لتحدثها ربما لساعات طويلة في مشاكلها
الخاصة حتى تلك التي تمس علاقتها بالأم، في الوقت الذي فيه تصر الفتاة على
الالتزام بتدريب صمت في علاقتها مع والدتها، كما
ذكرنا أيضًا هنا في
موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.
ليت الأم تعالج ذلك بحكمة،
فتدرك أن لابنتها عالمها الخاص الذي تنتمي غليه، يشبع مشاعرها وأحاسيسها،
بينما تتطلع الأم كشخص ينتسب لجيل قديم له خبرات مُغايرة للجيل الجديد،
وعاجز عن فهم ما للجيل الجديد.
ما أحوجنا إلى الحكمة لنقتحم عالم أبنائنا خلال واقعه الذي يعيش فيه، بروح
الحب الحقيقي القائم على التقدير المتبادل.
3- يحتاج أولادنا إلى إدراك مفهوم الطاعة، إنها لا تعني مذلة ولا كبتًا ولا فقدانًا للحرية الإنسانية خلال دكتاتورية البالغين، أي إصدار أوامر ونواه. الطاعة هي دخول في حوار حب مشترك، فيه يتبادل الكل الخبرات، ويحترم كل شخصية الآخر أيًا كانت سنه أو قدراته أو خبراته. الله خالق الكل إذ يطالبنا بالطاعة يفتح معنا باب الحوار، في حب فائق يرفع من شأن الإنسان، ويشعره بشخصيته وقدراته. قيل عن موسى النبي أن الله كان يتحدث معه كما يكلم الرجل صاحبه (خر11:33)؛ وفي مواضع كثيرة يطالبنا الله أن نتحاجج معه ونحاوره (إش5:3). الله يفتح باب الحوار مع الإنسان، بينما نحن نغلق أحيانًا باب الحوار الجاد مع أبنائنا.
يقتطف Josh McDowell كلمات لبعض المراهقين (وآبائهم) بخصوص رغبتهم الجادة في قبول الآباء الحوار معهم، جاء فيها (2):
(إنني محتاج أن تخلقا الجو الذي فيه أشارك بخبراتي ومشاعري وتجاوب فشلي وأنا مطمئن).
(يُظهر المراهقون الحاجة الهائلة لإمكانية المشاركة بالمشاعر، خاصة تجارب فشلهم، مع والديهم. إنهم يقولون: "من فضلكم اسألوني عن إحباطي وارتباكي فيما يخص حياتي الجنسية"... يحتاج الطفل أن يرى نعمة الله وغفرانه ويختبرهما في كل جوانب الحياة، خاصة الجنسية، أفضل طرق لتعليم أطفالنا ولمشاهدتهم نعمة الله عمليًا هو عن طريقنا نحن آبائهم).
(عندما لا يشعر الأبناء بالحرية في الحديث مع آبائهم بخصوص الجنس، يثورون كطريقة يعبرون بها عن احتياجاتهم).
(أريد أن أتحدث معكما عن الأمور التي فشلت فيها، وليس فقط فيما نجحت فيه. أريد منكما أن تخبراني أنكما تهتمان بي).
(إنهما لا يعرفان من أنا، لأنهما لم يعطياني وقتًا لذلك).
(إني أحبكما. بالحقيقة أود أن نكون ملاصقين لبعضنا البعض في صراحة. إن استطعتما الإنصات إليّ أكثر من أن تقنعاني بقدرتكما، فإنني أشعر بالأكثر بالكمال. إنني أحبكما).
4- ليتنا ندرك أن الطاعة ليست خنوعًا. فالشاب الذي تدرب على محاورة والديه بدالة حب وجدية ووقار متبادل يتشرب منها روح القيادة. بهذا يتسلم الجيل الجديد القدرة على احتمال المسئولية وممارسة العمل القيادي بحكمة، بل وتسليم الأجيال التالية ذات الروح. بهذا يتخرج في مدرسة البيت الأبناء الذين يصيرون في المستقبل والدين ناضجين وكهنة وخدام ورؤساء في العمل بروح قيادي متفتح.
أذكر في إحدى اجتماعات الشباب حضر شاب كان قد انتقل إلى الإسكندرية، وكان في مظهره يحمل عنفًا وحدَّة، يحاور بشدة ويجادل. في نهاية الاجتماع همس في أذني المتنيح القمص بيشوي كامل، قائلًا: "هذا الشاب يصلح يومًا ما أن يكون قائدًا في خدمة الشباب". تحقق هذا، وكان يجتذب الشباب بانفتاح قلبه لهم.
5- من أجل إيجاد جو من الاحترام والتقدير المتبادل يليق بالبالغين كما بالشباب أن يميزوا بين مستوى الذكاء في حياة الإنسان والنمو العقلي خلال الخبرات المستمرة. فالشاب غالبًا ما يشعر في سن المراهقة أنه قد نضج ذهنيًا، وصار في ذكائه لا يقل عن مستوى والديه إن لم يزد. ربما يكون هذا حقيقة واقعة، إذ نجد بعض الأبناء أكثر ذكًاء من والديهم. هذا ما يجب أن يعرفه الآباء حتى يكسبوا أبناءهم، لكن من الجانب الآخر يليق بالأبناء أن يدركوا أنهم، وإن كانوا قد بلغوا بعض النضوج في ذكائهم ونموهم العقلي، غير أن هذا النمو ينقصه الخبرات المستمرة، فيبقى الإنسان الحيّ ينمو في إدراكاته العقلية، ما دام في الجسد يدخل في خبرات جديدة، بهذا يحترم الأبناء خبرات والديهم، ويتوقعوا أن ينالوا هم أيضًا نموًا مستمرًا.
6- كثيرًا ما يشعر المراهقون أن والديهم قد بدأوا فعلًا في الحوار معهم طالبين صداقتهم، لكنهم يشعرون بأن هذا يتم عن ضعف وتحت الضرورة. فالمراهق (أو المراهقة) يرجع بذاكرته إلى الطفولة ليجد في تصرفات والديه دكتاتورية عنيفة. هذه الصورة يصعب على الآباء محوها من مخيلة أبنائهم المراهقين مهما غيّروا من طريقة تعاملهم معهم. لذا يليق بالآباء الحكماء أن يبدأوا الملاطفة والحوار في جو الصداقة منذ بدء حياة أطفالهم دون الانتظار حتى يبلغوا سن المراهقة. ليكن حب الحوار اللطيف نابعًا من أعماقهم الداخلية، وليس عن ضرورة بسبب خوفهم من انحراف أبنائهم المراهقين.
يطالب المراهقون آباءهم أن يبدأوا الحديث معهم والحوار مبكرًا، إذ يقول أحدهم: (لم يعرف والديّ متى يبدأون تعليمي (3)).
7- يطال الآباء أبناءهم السلوك بروح الطاعة، متهمين إياهم بالتمرد، دون أن يدركوا هذا التمرد إنما قد تشَّربوه منهم. فالوالدان اللذان لا يمارسان الطاعة لله أو لوالديهما أو لمرشديهما أو لرؤسائهما في العمل يبثان ذات الروح في حياة أولادهما لا شعوريًا. لقد قيل: "بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم ويزاد"، وأيضًا: "كما فعلت هكذا يُفعل بك".
انسكاب الوالدين بروح الطاعة والخضوع أمام الله وطلب مشورته، واحترامهما لبعضهما البعض، وعدم مهاجمتهما للغير من الخلف... هذا السلوك له فاعليته على أولادهما، يتشرَّبونه منذ نعومة أظافرهم.
8- كثيرًا ما يتبع تمرد المراهقين على والديهم كثمرة طبيعية لجهل الآباء مواهب أبنائهم وقدراتهم، فيطالبونهم بغير ما يناسبهم. كأن يُصرّ الطبيب أن يلتحق ابنه بكلية الطب حتى وإن كانت مواهبه أو قدراته تنصب في حب الكتابة أو الموسيقى أو الهندسة أو الأعمال اليدوية... هذا الإقحام يبعث في الأبناء الشعور بالفشل، لهذا فهم يلجأون إلى التنفيس خلال التمرد.
9- النقد المستمر من جانب الآباء عوض التشجيع والمساندة، وإبراز الجوانب الطيبة فيهم، والافتخار بهم ومدحهم أمام الغير... يدفع الأبناء إلى إلى الدفاع عن أنفسهم بروح التمرد.
____________________
(1) Josh McDowell: What I wish my parents knew about my sexuality? California 1987.
(2) I bid, ch. 17.
(3) I bid, ch.18.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/grow/talk.html
تقصير الرابط:
tak.la/5xfkqs9