محتويات: (إظهار/إخفاء) |
بولس
الرسول يرتعب قدام عناية الله اللانهائية بين معرفتنا الحالية ومعرفتنا الأبدية |
ما هي علّة هذا الخطر العظيم: تجاهل عناية الله؟!
إنّه طيش الفكر وفضوله. اشتهاء تفهّم كل علل الأحداث التي تحل بنا، والرغبة في مقاومة عناية الله غير المُدْرَكة ولا موصوفة، تلك العناية التي تفوق كل فحص واستقصاء! ومع هذا لا يخجل الإنسان من هذا الموقف الفضولي المملوء تهورًا.
تُرَى من فاق القديس بولس الرسول في حكمته؟
اخبرني، ألم يكن إناءً مختارًا؟
ألم يأخذ نعمة الروح الفائقة غير المنطوق بها؟
ألم يتكلّم المسيح فيه؟
ألم يكشف الله له عن أمورٍ لا يُنطَق بها؟
ألم يسمع ما لا يحق لإنسانٍ أن ينطق به؟
ألم يُختطَف إلى الفردوس ويرتفع إلى السماء الثالثة؟
ألم يجوب البحار والبر يجذب الوثنيّين إلى المسيحيّة؟
ألم ينل من مواهب الروح المتنوّعة؟...
ومع هذا كلّه، فإن هذا الرجل بعظمته وحكمته وقوّته وامتلائه بالروح، إذ خصّه الله بهذه الامتيازات، عندما يتطلّع إلى عناية الله، لا في كل جوانبها، بل في جانب واحد منها، تأخذه الدعوة منسحقًا، ويتراجع سريعًا خاضعًا لله غير المدرك. فإنه لم يبحث عن عناية الله بالملائكة ولا رؤساء الملائكة أو الشاروبيم والساروفيم وكل الطغمات غير المنظورة، ولا في عنايته بالشمس والقمر والسماء والأرض والبحر، ولا في سهره على الجنس البشري بأكمله واهتمامه بالحيوانات غير العاقلة والزرع والعشب والأهوية والينابيع والأنهار... لكنه بحث عن عناية الله الخاصة باليهود واليونانيين وأفاض في بحث النقطة، وشرح كيف دعا الله الأمم ورفض اليهود ثم أوضح كيف حقق الخلاص... وحينما أدراك هذا، اكتشف الرسول أنه أمام محيط واسع، وإذ حاول فحص أعماق هذه العناية ارتجف متحققًا استحالة تفسير عللها، وارتعب قدام عناية الله اللانهائية غير المحدودة ولا موصوفة ولا مفحوصة ولا مُدْرَكة، فتراجع في مهابة متعجبًا، وهو يقول: "يا لعمق غني الله وحكمته وعلمه"! (رو 11: 33) لقد أوضح بعد ذلك كيف تلامس مع أعماقها دون أن يفلح في استقصائها، قائلًا "ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء؟!"
إنه لم يقل إن أحكامه بعيدة عن الفحص فحسب، وإنما بعيدة أيضًا عن الاستقصاء. ليس فقط لا يقدر الإنسان على فهمها، بل ولا حق له أن يبدأ في استقصائها. يستحيل عليه أن يدرك غايتها أو حتى يكتشف بدء تخطيطها؟!
وإذ قال: "ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء" أنهى حديثه -وقد امتلأ عجبًا ورعدة- بأنشودة شكر قائلًا: "لأن من عرف فكر الرب، أو من صار له مشيرًا. أو من سبق فأعطاه فيكافأ؟! لأن منه وبه وله كل الأشياء. له المجد إلى أبد الأبد. آمين"
يريد القول إن الله ينبوع كل الخيرات ومصدرها، ليس في حاجة إلى شريكٍ أو مشير، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. هو بدء كل الخيرات وأساسها وموجدها. هو الخالق، دعا غير الموجود موجودًا. يدير ويُرتِّب ويحفظ كل شيء حسب إرادته!... "منه وبه وله كل الأشياء" هذه كلمات إنسان يود أن يؤكد أن الله خالق كل الكائنات ومبدعها، مُدَبِّر حياتها وحافظها.
وفي موضع آخر يتحدث بولس عن النعمة الموهوبة لنا، فيقول: "شكرًا لله على عطيته التي لا يُعبَّر عنها" (2 كو 9: 15)، يؤكد أن سلام الله المُعطى لنا فائق لكل نطقٍ وكل وصفٍ وكل عقلٍ، قائلًا: "سلام الله الذي يفوق كل عقل" (في 4: 7).
فإن كان عمق غنى الله وحكمته وعلمه بلا حدود، وإن كانت أحكامه بعيدة عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء، وإن كانت مواهبه لا يُنْطَق بها، وسلامه يفوق كل عقل... يفوق عقلي وعقلك وعقل كل أحد، بل وعقل بطرس وعقل بولس، وفهم رؤساء الملائكة وكل الطغمات السمائيّة، أخبرني أي عذر لك في محاولتك الغبيّة... لكي تتفهم ما لا يمكن إدراكه، محاسبًا أعمال عناية الله؟!
إن كان القديس بولس الرسول الذي أدرك الإلهيات بعمق وامتلأ رجاءً صادقًا غير منطوق به وغَمَرَته كل هذه المواهب تجده يتراجع، وإن كان قد ارتفع فوق حدود طاقته لعله يفهم فلم يقدر حتى أن يدرك مبادئ تدابير الله. فإن هذا محال، أفلا يحسب ذاك الذي يريد السير في طريق مناقض لترتيب العناية الإلهيّة أشقى الجميع وأكثرهم جنونًا؟!
لم يكتفِ الرسول بهذا، لكنه عندما تعرض لمعرفة الأمور الإلهية - في رسالته إلى أهل كورنثوس - أكد أن معرفته، بالرغم مما ناله منها، لا تزال محدودة وغاية في الضآلة إذ قال: "فإن كان أحد يظن أنه يعرف شيئًا، فإنه لم يعرف شيئًا بعد كما يجب أن يعرف" (1 كو 13: 9-10). لقد أكد لنا أننا الآن نعرف بعض المعرفة، أما الجانب الأعظم منها فسنعرفه في الدهر الآتي. "لأننا نعلم بعض العلم، ونتنبأ بعض التنبؤ، ولكن متى جاء الكامل، فحينئذ يبطل ما هو بعض" (1 كو 13: 11-12).
وعندما أراد توضيح الفارق بين معرفتنا هنا ومعرفتنا في الحياة الأخرى لجأ إلى هذا التصوير: "لما كنت طفلًا كطفلٍ كنت أتكلم، وكطفلٍ كنت أفطن، وكطفلٍ كنت أفتكر، ولكن لما صرت رجلًا أبطلت ما للطفل. فإننا ننظر الآن في مرآة، في لغز، ولكن حينئذ وجهًا لوجه" (1 كو 13: 11).
هل لمستَ مدى الفارق بينهما؟ إنه كاختلاف معرفة الطفل الصغير عن معرفة الرجل الناضج، وكاختلاف الرؤية في مرآة عن التطلع وجهًا لوجهٍ، إذ تشير المرآة إلى التعبير العميق لكن في غموضٍ!...
فلماذا إذن لا نصدق قول بولس: "من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله؟ ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا؟!" (رو 9: 20)
تأمل كيف يليق بنا الخضوع لإرادة الله في صمت! إنه بلا شك لا يقصد بقوله هذا أنه يود أن يفقدنا إرادتنا حاشا! لكنه يؤكد أنه ينبغي على الباحث الالتزام بالصمت، كالطين في يدَّ الخزاف لا يقاوم ولا يجادل. وقد ذكر الخزاف والطين ليذكرنا بطبيعتنا، فإنهما في درجة واحدة من حيث وجودهما (لأن الخزاف مخلوق من التراب) ومع هذا يخضع الطين للخزاف، فأية مغفرة يترجاها الإنسان وهو يتجاسر بتهورٍ مجادلًا إرادة الله جابله، مع أن الفارق بينه وبين الوجود ذاته لا نهائي؟!
اذكرْ أيها الإنسان من أنت؟ ألستَ طينًا وترابًا ورمادًا؟ ألست بخارًا؟ ألست عشبًا؟ ألست زهرة عشب؟ هكذا يتسابق الأنبياء في رسم صور قدام أعيننا للتعبير عن حقيقة وجودنا. أما الله الذي تود أن تخضعه لفضولك الطائش فهو لا يخضع للموت أو التغيير. إنه سرمدي لا بداية له ولا نهاية، غير مُدرَك، فائق لكل فهم وكل مَنْطِق، غير موصوف ولا منظور! هذه الصفات التي لا نقدر إدراكها أنا وأنت أو حتى الرسل والأنبياء، بل وحتى القوات السمائية، فبالرغم من طهارتها غير المنظورة وروحانيتها ومعيشتها في السماء على الدوام لا تقوى على إدراكها.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/divine-providence/gods-judgement.html
تقصير الرابط:
tak.la/j3n9txx