St-Takla.org  >   books  >   fr-salaib-hakim  >   sanctity-chaste
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب القداسة في المسيحية بين المتبتلين - القمص صليب حكيم

22- استدراك

محتويات: (إظهار/إخفاء)

ما بين الطهارة والبتولية
الأمر الأول
الأمر الثاني
البتولية الكاملة في الوحدة التامة
معنى الانفراد بالله الذي يجعله متعة القلب
متعة الخدمة وسعادتها

ما بين الطهارة والبتولية:

في هذا الاستدراك نعود إلى الجزئية التي أُسئ فهمها في كتابنا الأول عن القداسة وتخص العلاقة بين البتولية والطهارة لنؤكد أن البتولية ارتباطها الأساسي هو بالوحدة وليس بالطهارة. إلا أننا قبل هذا التأكيد نوضح أمرين:

الأمر الأول:

هناك فارق بين البتولية والطهارة من حيث أن البتولية تخص شريحة خاصة من الناس. أما الطهارة فتخص الجميع. لذلك فالعلاقة بين البتولية والطهارة ليست دائمًا علاقة طردية بمعنى أن هناك بتوليين أي غير متزوجين ولكنهم يعيشون في كل متع الجسد وملذاته أكثر من المتزوجين أنفسهم. ومن ثم يكون الكلام عن البتولية ودرجات التبتل لا يعني بالضرورة الكلام عن درجات الطهارة. والكنيسة نفسها تميز بين الطهارة والبتولية في لحن الفضائل الذي تطلب فيه أن تحل على رأس البابا البطريرك فتدعو الفضيلة الرابعة الطهارة والخامسة البتولية.

الأمر الثاني:

إن هناك ثلاثة معان متدرجة لمفهوم البتولية:

St-Takla.org Image: Saint Mina Cathedral, at the Monastery of St. Mina, Mariout, Alexandria, Egypt - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org صورة في موقع الأنبا تكلا: كاتدرائية مار مينا في دير الشهيد مارمينا العجايبي، مريوط، الإسكندرية، مصر - تصوير مايكل غالي لـ: موقع الأنبا تكلا هيمانوت

St-Takla.org Image: Saint Mina Cathedral, at the Monastery of St. Mina, Mariout, Alexandria, Egypt - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org

صورة في موقع الأنبا تكلا: كاتدرائية مار مينا في دير الشهيد مارمينا العجايبي، مريوط، الإسكندرية، مصر - تصوير مايكل غالي لـ: موقع الأنبا تكلا هيمانوت

فالبتولية في مفهومها الأوَّلى الدارج تعني عدم الزواج. وفي هذا المعنى البتول هو من لم يرتبط بعلاقة زواج آيا كان مستواه الروحي أو الأخلاقي. ثم البتولية في مفهومها الروحي وتعني أنها مستوى أعلى من الزواج في الدرجة الروحية. وفي هذا المعنى البتول له فرصة أكبر للاهتمام بالأمور الروحية عن المتزوج. ثم البتولية في مفهومها الصوفي وهى التوحد والانقطاع التام بالله. وهو المعنى الكامل للبتولية. وهو الذي بنينا عليه تصنيفنا لدرجات البتولية في كتابنا الأول عن القداسة.

وإذ بينا هذين الأمرين نعرض لبيان الشواهد المتعددة على الارتباط الوثيق بين الوحدة التامة والبتولية.

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

البتولية الكاملة في الوحدة التامة:

تَضَمَّن الكتاب الأول عن القداسة الإشارة إلى عدم تمتع القامات العليا في الكهنوت بالمعنى الكامل للبتولية بسبب ما يتولونه من مهام ومسئوليات قيادية ورعوية تستهلك الكثير من الوقت والجهد، وقد أساء البعض فهم هذه الجزئية.

ويزول سوء الفهم بالرجوع إلى حقيقة الربط بين التوحد والبتولية وجعل درجة التوحد مقياسًا لدرجة البتولية، وذلك تأسيسًا على المعنى الحقيقي للبتولية على أنها الاتحاد بالكلي المطلق، هذا الاتحاد الذي لا يتوفر إلا بالتفرغ من كل شيء والانفراد بالله والاختلاء به. حسب ما تؤكده قواميس اللغة معنى للبتولية كما يقول الرازي "التبتل هو الانقطاع عن الدنيا إلى الله"(1).

فالتبتل بهذا المعنى يكمل لأصحابه بهروبهم من ضجيج الحياة وتولية وجوههم عن خلطة البشر وزحفهم نحو البراري والقفار. كما قال عنهم معلمنا بولس "تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض" (عب11: 38)، يرددون ما قاله قداسة البابا شنوده الثالث وهو متوحد في مغارته:

قد تركت الكون في ضوضائه
قد تركت الكل ربي ما عداك
قد نسيت الكل في حبك يا

واعتزلت الكل كي أحيا معك
ليس لي في غربة العمر سواك
متعة القلب فلا تنس فتاك

وفي مكان آخر يؤكد قداسته معنى كمال البتولية في مقارنة بين الخادم والعابد، وذلك في قوله "رأيت رهبان الأديرة نوعين أحدهما عابد والآخر عالم، أحدهما قد انحل من الكل ليرتبط بالواحد، والآخر يحيط به الكل. يشرح ويُفسِّر. وكان كل منهما له مزاياه.. ولكن.. أيهما أفضل العالم أم العابد؟". وكأن قداسته بهذه المقارنة يوحي لنا بما ذكره الإنجيل عن مرثا التي كانت مهتمة بخدمة المسيح وتلاميذه وأختها مريم التي جلست تحت أقدام المسيح لتشبع روحها من نور تعزياته الإلهية. فمدحها الكتاب بأنها "اختارت النصيب الصالح الذي لن ينزع منها" (لو10: 42).

وفي مكان ثالث في مقال يطلب قداسته فيه من نفسه "اتركيني الآن" قال "كنت أقول عن اجتماعي بالإخوة إننا باجتماعنا معًا على الأرض هنا نعطل أنفسنا عن الانشغال بالله. وربما نتسبب بذلك في عدم اجتماعنا كلنا هناك معه في الأبد".

وتذكر لنا سيرة القديس العظيم الأنبا أنطونيوس أنه عندما كثر الذين يترددون عليه ويسمعون تعاليمه ورأى أن ذلك يشغله عن العبادة أخذ يتوغل في الصحراء الشرقية مسيرة ثلاثة أيام حتى وجد موضعًا به عين ماء فأقام فيه.

ولا شك أن مسئوليات الخدمة والاهتمام بمشاكل الناس ورعايتهم قد تشغل الراعي حتى عن اهتمامه بنفسه. الأمر الذي جعل القديس يوحنا فم الذهب يخاطب الرعاة على مختلف مسئولياتهم بقوله "لا تجعل اهتمامك بنفسك ينسيك اهتمامك بالرعية ولا اهتمامك بالرعية ينسيك اهتمامك بنفسك". ويذكر تاريخ الكنيسة ما قالته أم لابنها بعد أن صار بطريركًا وهو الأنبا مكاريوس بابا الإسكندرية الـ59 "ألا تعلم أنك قبلًا كنت مطلوبًا بنفسك وحدها. والآن صرت مطلوبًا بأنفس رعيتك. فأيقن أنك أمسيت في خطر وهيهات أن تنجو منه" (24 برمهات).

وهل في خضم الاستغراق في علاج هموم ومتاعب الناس والجهد الذي يبذل في نصحهم وحل مشاكلهم يمكن أن يتمتع القلب بعذوبة العشرة والحديث مع الله؟

لا شك أن النفوس التي تنسلخ من وحدتها، وتناط بها مسئوليات الرعاية والخدمة، تحرم من نعمة التلذذ بوجودها في حضرة الله الذي كانت تتمتع به في وحدتها أي تبتلها. لذلك نجد مثل هذه النفوس تهرع بين الحين والآخر إلى البرية لكي ترتشف قطرات شهد بتوليتها في وحدتها التي لا تتيحها لها زحمة الخدمة في العالم.

وهناك قول لأحد القديسين "إذا لم يقل الراهب إنه لا يوجد في هذا الكون غيري أنا والله فلن يصادف نياحًا" مما يعني أن تحقيق كمال البتولية للراهب هي في أنه هو والله منفردًا وليس أحد آخر. وهذه هي الراحة الحقيقية للراهب أي في انفراده بالله.

لذلك يؤكد قداسة البابا شنوده الثالث معنى البتولية في مدح سكان البراري والاغتراب عن العالم في قوله:

فوا مجدًا لسكان البراري
ويا طوباه من يحيا غريبًا
فلا يهتم إن جاءت وولَّت
ويحيا مثل ضيف ليس يبنى

 

ووا فخرًا لقس في القلالي
عن الدنيا وعن صحب وآل
ولا يصغي إلى قيل وقال
قصورًا غير قصر الأعالي

والبتولية بهذا المعنى التصوفي تخص السائرين في السلك الرهباني. وتختلف عن القداسة التي هي صفة لازمة لعموم المؤمنين وعلى رأسهم أصحاب الوظائف العليا الكهنوتية، لأنهم الواسطة المنظورة للتقديس لكافة المؤمنين ولسائر الأسرار. فعلى أيديهم تتم الولادة الروحية الجديدة للإنسان، ويتم تقديسه بمسحه بزيت الميرون، وتطهيره من خطاياه بحل الغفران، وتقديسه للكهنوت بنفخة الروح القدس... الخ.

لذلك فالكلام عن البتولية بمعناها الحقيقي لا يُنقص إطلاقًا من صفة القداسة التي تحوي الطهارة لرتب الكهنوت. بل إننا من شدة تعظيم هذه الصفة لذوي الرتب العالية نقول عنهم "كُلِّي القداسة".

والخلاصة أن التعبير عن المعنى الكامل للبتولية القائم في التوحد لا ينتقص من القداسة أو الطهارة أو الروحانية. لأنه يتركز حسب التعريف اللغوي في الانقطاع عن الدنيا والانفراد بالله وحده. والذي فيه يتذوق المتبتل أن الله بالحقيقة هو "متعة القلب" هاتفًا "من لي في السماء ومعك لا أريد شيئًا على الأرض" (مز73: 25).

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

معنى الانفراد بالله الذي يجعله متعة القلب:

الانفراد بالله الذي هو كمال البتولية يملؤه عمل التأمل. والتأمل في عمومه هو استغراق الفكر في الشيء أي الغوص في باطنه لفحص أعماقه وسبر أغواره. وبالنسبة للتأمل في الله فليس لفحص أعماق لاهوته لأن من يقترب من لاهوته يحترق. ولكن لفحص أعماق محبته.

ومحبة الله للإنسان على مستويين؛ المستوى الأول هو محبته له من حيث هو الخير الأعظم كعلة لوجوده وللوجود بكل مصنوعاته وهو موضوع التأمل العقلي لدى محبي الحكمة، الذين يتلذذون بالبحث عن الله من خلال تأملهم في مصنوعاته التي على قمتها الإنسان - والتي أظهرت لهم عظمته ومجده وجبروته وحكمته وقدرته غير المتناهية متغنين بقول داود النبي "السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه. يوم إلى يوم يبدي قولًا. وليل إلى ليلٍ يظهر علمًا" (مز18: 2،1) - الترجمة القبطية. وكلما غاصوا في أعماق الوجود ومصنوعاته كلما أدركوا نقص معرفتهم بالله، فيزدادون شوقًا ورغبة أكثر في التأمل.

ثم يرتقون إلى درجة أسمى فيتأملون في الله من خلال القيم العليا للوجود. وهى الخير والحق والجمال. وفيها يسرحون بتأملاتهم إلى آفاق بعيدة في الله كمصدر لهذه القيم، فيتيهون في شخصه عندما يَصُبُّون فيه كل ما استقرأوه في الوجود من أنواع الخير والصلاح، ومن موازين الحق والعدل، ومن نماذج الجمال والكمال، متسائلين كم يكون هو إِذَن كمصدر وعلة لها جميعًا! وإن كانوا قد بُهروا بها على مستوى هذا الوجود، فكم يكون انبهارهم بها في علة هذا الوجود وصانعه! نعم إنهم لا يَكلُّون ولا يتعبون من التأمل في الله الخير الأعظم، والحق الأمثل، والجمال الأكمل. لأنهم كلما أطالوا النظر فيه كلما زادت سعادتهم. لذلك قالوا "السعادة هي في التأمل". هذا هو المستوى الأول لإدراك محبة الله في الانفراد به والشخوص إليه وتركيز التأمل فيه.

والمستوى الثاني للتأمل في محبة الله للإنسان هو من حيث هو الله مخلصه ومجدد حياته ورافع مقامه إلى رتبة البنوة الإلهية مقدمًا له عطايا روحه القدوس منعمًا عليه بميراث ملكوته السماوي، واهبًا له حياة أبدية فيه وبه. وهذه هي موضوع تأمل النفس المؤمنة التي أدركت محبة الله لها على مستوى أبوته لها.

فكم هي سعادة هذه النفس في انفرادها بالله على هذا المستوى من الحب؛ حبًا قدمه لها ليس من خلال عطايا مادية من هذا العالم لحياة زمنية زائلة وإنما عطايا روحية سماوية إلهية لحياة خالدة، حبًا ليس بمنح قيم أخلاقية أو فضائل إنسانية، وإنما من خلال عطايا تبرير وتقديس ووصايا روحانية لسيرة كاملة. وحبًا ليس بإعلان وسيط كملاك أو نبي بل بذاته. لذلك تنفرد معه النفس ليس كقوة غيبية أو كشخصية مجهولة، بل إلهًا محبًا منعطفًا نحوها مالئًا لها بروحه. وتنفرد به ليس لتتأمله تأملًا عقليًا مجردًا بل تأملًا متقدًا بعواطف الحب والتقدير والامتنان معبرة عنها بلسان يلهج بصلوات الشكر والتمجيد والتسبيح. وصلواتها هذه وتسابيحها وتماجيدها تخصب تأملاتها وتثريها إلى أن يتحول تأملها إلى هذيذ بالله.

وهذيذها بالله هو هذيذ باسمه القوي القدوس وترديد لأعمال محبته الفائقة، فيه تنسى وجودها الذاتي ولا يتبقى في شعورها ووعيها سوى وجود الله في ضياء اسمه ولمعان أعمال محبته التي تجسده منبعًا يفيض بحب غير متناه وهذا كمال تلذذها بالله وسعادتها به. وحينئذ يصبح الله لها حقًا "متعة القلب" وهذا تحقيق لكمال بتوليتها.

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

متعة الخدمة وسعادتها:

ولا ينكر أحد أن الخدمة والرعاية لها لذتها ومتعتها في تقديم الله للرعية كقوة خالقة من خلال إجراء آيات الشفاء من الأمراض والخلاص من الضيقات والخلاص من الأرواح الشريرة هذه التي لا يقدر عليها سوى الله وحده، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ولا تُقَدَّم إلا بقوة روحه التي امتلأت بها النفس في وحدتها. أو في تقديم الله للرعية كقوة معطية حياة أبدية. وذلك من خلال التعليم بكلام الله الذي يغير الشكل بتجديد الذهن فَيُثَبِّتُ الإيمان في النفس وينقيها ويجددها ويقودها إلى حياة الروح لتحصد منه حياة أبدية. وهذا قد يكون ما قصده المسيح من قوله "من يؤمن بى فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضًا ويعمل أعظم منها" (يو14: 12). لأن شفاء النفس والخلاص من الخطية أعظم كثيرًا من آيات شفاء الجسد أو الخلاص من الضيقات الزمنية. لذلك فالرعاة والخدام لا يفارقهم روح الله لا في وحدتهم ولا في خدمتهم. فقوة الله معهم في خدمتهم وهم مع الله في وحدتهم.

والآن لربما بعد هذا التوضيح يكون قد ظهر جليًا ما قصدناه من معنى للبتولية ودرجاتها الذي يتلخص في كلمة واحدة هي أن الراهب في قلايته فرصته للاختلاء بالله والتمتع به أكبر من الراهب الذي تناط به مسئوليات الخدمة والرعاية.

والذين حكموا خطأ على ما جاء بالكتاب الأول كان بسبب سطحية القراءة، لأن سطحية القراءة تقود إلى سوء الفهم وسوء الفهم يقود إلى فساد الحكم. ولذلك لزم التنويه.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(1) (1) مختار الصحاح ص40 ، ط1922 ، لويس معلوف ، المنجد ، ص26 ، ط (22).


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-salaib-hakim/sanctity-chaste/rectification.html

تقصير الرابط:
tak.la/2h29stn