"وفي أول أيام الفطير تقدم التلاميذ إلى يسوع قائلين له أين تريد أن نعد لك لتأكل الفصح. فقال اذهبوا إلى المدينة إلى فلان وقولوا له: المعلم يقول إن وقتي قريب. عندك أصنع الفصح مع تلاميذي" (مت 26: 17، 18).
هو اليوم الذي يسبق عيد الفطر، لأنهم كانوا معتادين أن يحسبوا اليوم من المساء. وهو يقصد الليلة التي فيها يتم ذبح الفصح (يوحنا 13: 1) لأنهم في خامس أيام الأسبوع أمسكوه.
وهنا يذكر اليوم السابق لعيد الفطر (لوقا 22: 7) قاصدًا الوقت الذي أتوا فيه ليمسكوه.. ويذكر آخر في هذا الشأن "ثم جاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفصح" (لوقا 22: 7) قاصدا بكلمة "جاء" أنه قريب.. على الأبواب.. أي تلك الليلة. لأنها بدأت بالمساء. لذلك أيضًا يتفق جميع البشيرين على إضافة "حين يذبح الفصح".
قالوا له "أين تريد أن نعد لك لتأكل الفصح".. وحتى هذه الجملة توضح أنه لم يكن له بيت أو مكان للراحة.. ولا التلاميذ أيضًا كان لهم مكان وإلا كانوا قد دعوه إليه.. فكل منهم إذن لم يكن له مكان... لأنهم كانوا قد تركوا كل شيء!
فأين يأكل الفطير إذن، لكي يتمم الناموس حتى اليوم الأخير؟
ثم ما هو السبب الوجيه الذي يدعوه إلى أن يرسل تلاميذه إلى شخص غير معروف؟ أن هذا لكي يظهر أن من له هذا السلطان يستطيع أيضًا أن يتحاشى الآلام إن أراد..
والذي فعله مع الأتان فعله هنا أيضًا. فهناك يقول "إن قال لكما أحد شيئًا فقولا الرب محتاج إليهما" (مت 21: 3) – وهنا يقول أيضًا "المعلم يقول.. عندك أصنع الفصح مع تلاميذي" ولست أُعجب من موافقة الرجل على استقبال المسيح رغم عدم معرفته به، بل المدهش انه رغم علمه بأن استقباله للمسيح يثير حقد الناس وعداوتهم له، فانه لم يعبأ بمشاعر الجماهير...
وفضلا عن هذا – فلأن التلاميذ لا يعرفون الرجل فقد أعطاهم المسيح علامة مثلما عمل صموئيل النبي مع شاول حين قال له "فيصادفك واحد حامل ذق خمر" (1 صم 10: 3).
ثم تأمل مقدار قوة المسيح! فهو لا يكتفي بقوله: "عندك أصنع الفصح" بل يضيف أيضًا: "إن وقتي قريب" وهذا ما ردده لتلاميذه، ليذكرهم بما هو مقبل عليه من آلام، ويعدهم للأحداث الآتية، وفي الوقت نفسه كي يبين للتلاميذ ولمن سيستضيفهم ولليهود عامة أن تسليمه لن يكون على غير إرادته..
ثم يضيف قائلًا: "مع تلاميذي" حتى يستعد لاستقبال هذا العدد وحتى لا يتصور أيضًا أن المسيح كان يضمر التخفي.
"ولما كان المساء اتكأ مع الاثني عشر" (مت 26: 20).
يا للعار الذي لحق بك يا يهوذا!! لقد كان حاضرًا وشارك في الأسرار وفي العشاء، وهى أمور تدينه وتشهد عليه.. لأن هذه المائدة كان يمكن أن تستأصل الشر من أشد القلوب قسوة.
لهذا يشير البشير إلى أنهم وهم يأكلون تحدث المسيح عن الخيانة لكي يبين مدى شر تلميذه الخائن، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى.. وكان حديثه مع التلاميذ بعدما نفذوا ما أوصاهم به: "وإذ كان المساء اتكأ مع الاثني عشر. وفيما هم يأكلون قال الحق أقول لكم أن واحدًا منكم يسلمني".
وحتى قبل العشاء قام المعلم بغسل أرجل تلاميذه ومن بينهم يهوذا!... تأمل كيف أشفق المسيح على الخائن؟ فلم يقل مثلًا "إن فلانا هو الذي سيخونني" لكنه قال "إن واحدًا منكم" لكي بإخفاء أمره يعطيه فرصة للندامة والتوبة، ولم يأبه بإزعاج الجميع من أجل إنقاذ الخائن. فكان المعلم يقول: "واحد منكم.. أنتم الذين تجلسون معي الآن.. والذين غسلت لهم أرجلهم.. الذين وعدتهم بوعود كثيرة".
لقد استولى على الجماعة حزن رهيب. ويوحنا يقول "إنهم كانوا ينظرون بعضهم إلى بعض وهم محتارون. في من قال عنه" (يوحنا 13: 22).
وتساءل كل واحد منهم خشية أن يكون هو المقصود رغم ثقتهم في أنفسهم. حتى أن متى البشير يقول "فحزنزا جدًا وابتدأ كل واحد منهم يقول له هل أنا هو يا رب؟ فأجاب وقال الذي يغمس يده معي في الصفحة هو يسلمني (مت 26: 22 – 24)
لاحظ متى كشف المعلم أمر الخائن؟ حين شاءت إرادته أن يخلص الآخرين من هذه الحيرة إذ كادوا يموتون خوفًا.. فضلًا عن أنهم لاحقوه بأسئلتهم.. ليس هذا فحسب، بل لرغبته في قيام الخائن بإصلاح خطاه... لأنه طالما لم يتأثر بالكلام العام حتى أنه تمادى في شره وظل فاقد الحس، فقد يكون في كشف أمره أمام الجميع ما يجعله يعيد التفكير..
"أجاب وقال الذي يغمس يده في الصفحة هو يسلمني. إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه. ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان. كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد".
هذه الأمور لا ينبغي أن نتركها تمر دون تأمل، بل يجب أن نسمرها في عقولنا دون أن نترك فرصة للسخط والغضب... لأنه من ذا الذي يتصور ذلك العشاء والخائن جالس إلى جوار مخلص الكل وهو عالم بأمر تسليمه ثم يسلم من السخط والغضب؟!!!
ولكن لنتأمل تواضع المسيح حين يقول عن نفسه "إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه" إنه إنما يقول هذا ليستعيد التلاميذ ثباتهم فلا يظنون أن الأمر كان علامة ضعف منه – وكذا من أجل إصلاح الخائن.
"ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان – كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد".
لنتأمل مرة ثانية في انتهار السيد المسيح لتلميذه، ونتأمل وداعته. فحتى في هذا الموقف لم يشتم أو يسب، ولكن في حنو يطبق تعاليمه التي ينادى بها. ويحذره بكلام غير مباشر عن العار الذي يلحقه بسبب عمله الشائن.
ثم ماذا يقول يهوذا...؟
"هل أنا هو يا سيدي" (مت 26: 25)
منتهى عدم الإحساس.. فهو يسأل. بينما هو يعرف حقيقة ما فعل. فحتى البشير تعجب لجسارة هذا التلميذ!!
ولكن كيف أجاب يسوع؟: "أنت قلت".. مع أنه كان من الممكن أن يقول له: "هو أنت أيها الشرير الخائن، الذي تماديت في شرك، وتآمرت على معلمك، وقبلت الرشوة.. ومع أنك تعلم أنك أنت الخائن، فانك تتجاسر وتسألني!!"
ومع هذا فان شيئا من هذا لم يتفوه به المسيح، بل قال فقط "أنت قلت" كي يرسم لنا قواعد الصبر والاحتمال.
ورب سائل يقول: إن كانت هذه الأمور قد وردت في النبوات فلماذا يلام يهوذا وهو ينفذ النبوات
إن يهوذا لم يفعل هذا لتحقيق النبوات بل بدافع الشر. فأنت بسؤالك هذا تعفى حتى الشيطان مما ينسب إليه من شر.
لكن الأمر ليس هكذا. فكلاهما يستحق العقاب رغم أن الخلاص قد تم بالصليب. والفضل لا يعود لخيانة يهوذا، بل لحكمة المسيح التي جعلته يستخدم شر الآخرين لمصلحتنا.
وقد يسأل آخر "إذا لم يقم يهوذا بدور الخائن، ألم يكن من الضروري أن يقوم آخر بهذه المهمة؟" لأنه إن كان المسيح ينبغي أن يصلب فمن الضروري أن يتم هذا بواسطة شخص ما. فلو كان الجميع أبرارًا فكيف كانت الرعاية الإلهية تشملنا؟
ليس الأمر هكذا.. لأن كلى الحكمة يعرف كيف يعطينا ما نحتاج إليه حتى مع الافتراض السابق. فما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء. لهذا، وحتى لا يتصور أحد أن يهوذا قد أصبح رسول الخلاص، فقد أعلن يسوع عن الويل الذي سيلحقه.
وقد يتساءل ثالث: إذا كان من الخير له لو لم يولد.. فلماذا إذن يتحمل هو وغيره من الأشرار نتيجة ولادتهم؟
اسمع يا أخي: كان ينبغي أن تلوم الشرير لكونه في مقدوره تجنب الشر، ولكنك تغض الطرف، وتشغل نفسك بأمور الخالق، وأنت تعلم أنه ليس شيء يلزم المرء أن يكون شريرا.
وقد يستطرد السائل فيقول: ألم يكن من الأفضل ألا يولد إلا الأبرار، فلا تكون هناك آثار للرذيلة، ولن تكون هناك حاجة إلى العقاب أو إلى جهنم؟؟
فلنتذكر قول الرسول بولس "من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله؟ ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا!!" (رومية 9: 20).
إن البار يظهر بره وسط الأشرار، بما يبديه من ضبط نفسي وقدرة على الاحتمال..
فهل تريد أن تلغى فرص الصراع والتناقض بين الخير والشر بقولك هذا؟!
حاشا، فإنهم من أجل شرهم يُعاقبون. فليس لأنهم ولدوا في العالم قد صاروا أشرارًا بل من أجل غلاظة قلوبهم. كان يمكن أن يتجنبوا الوقوع في الدينونة، لو استمعوا إلى معلميهم في الفضيلة.
وكما أن البار يتضاعف أجره لأنه يعيش بارًا، ولأنه لم يأخذ عن الخطاة شرهم – هكذا الخاطئ يتضاعَف عقابه لأنه صار شريرًا (مع أنه كان يمكنه أن يكون بارًا) ولأنه لم يتعلم البر من الصديقين.
ماذا قال ذلك التلميذ التعيس حين ووجه بالاتهام من معلمه؟ "هل أنا هو يا سيدي"؟.. فلماذا لم توجه سؤالك منذ البداية؟ لقد ظن أنه في مقدوره أن يهرب من الاتهام حين قال المعلم "واحد منكم".. ثم طمع في مراحم سيده متخيلًا انه لن يوجه إليه اتهامًا صريحًا.
لقد أظلمت بصيرة يهوذا.. وحين تعمى البصيرة، ينقلب المرء إلى مخلوق فاقد الحس طائش اللب، حتى يصبح أقرب إلى الوحش منه إلى الإنسان. لقد استولى إبليس عليه.. حتى انه في الوقت الذي كان يسوع يصنع معه خيرًا كان هو يتآمر عليه، لأن إرادته اتحدت مع إرادة إبليس... فهكذا تصنع شهوة الطمع مع الإنسان فإنها تدير عقله وتطيش صوابه.
ماذا يقول متى البشير وباقي الإنجيليين؟ إنهم يقولون انه حين وافق على تسليم معلمه دخله الشيطان.. أما يوحنا فيقول "فبعد اللقمة دخله الشيطان" (يو 13: 27) ويوحنا نفسه عرف هذه الحقيقة فقال في مكان آخر "وقد ألقى الشيطان في قلب يهوذا سمعان الإسخريوطي أن يسلمه" (يوحنا 13: 2) فكيف يستقم هذا مع قوله "بعد اللقمة دخله الشيطان"؟ ذلك لان الشيطان لا يدخل فجأة ولا دفعة واحدة بل أنه يقوم ببعض المحاولات أولًا، وهذا هو ما حدث مع يهوذا بلا شك، فبعد أن اختبره الشيطان وأحس باستعداده، أخذ في مهاجمته في تؤدة حتى تمكن من السيطرة عليه.
فانه كان ينبغي ألا يأكلوه وهم جالسين (خر 12: 11)
الحقيقة أنهم بعد أن تناولوه جلسوا إلى المائدة.
ولكن إنجيلي آخر يقول أن يسوع في تلك الليلة لم يأكل الفصح فقط بل قال أيضًا "شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم؟ (لوقا 22: 15) أي في تلك السنة.. فلماذا؟.. ذلك لأنه قد آن الأوان لكي يخلص البشرية.. ويحقق الرموز.. ويمحو بموته آلام البشرية... ومن أجل هذا رحب بالصليب.
مع كل هذا لم يرق قلب يهوذا المتحجر كما لم يخجل من عاره.
لقد أشفق عليه يسوع وقال "ويل لذلك الرجل... كان خيرًا له لو لم يولد" كما أخجله بقوله "الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلمني" ومع هذا لم يخجل من نفسه بل صار بفعل الخطية كالمجنون الذي لا يعي ماذا يفعل، لأنه ماذا يصنع المجنون أكثر مما فعل يهوذا؟؟!!
انه عوض أن يخرج اللعاب من فمه قد أصدر حكمًا بموت سيده!! ولم يخز من أن يمد يده ليتسلم ثمن الدم الغالي. لهذا فان جنونه كان أشد لأنه كان يقوم بأفعاله وهو في كامل وعيه.
ومع أنه لم يكن كالمجانين، يدق الأرض برجليه أو يضرب نفسه بالحجارة إلا انه –بثباته وهو يتآمر على سيده– كان أكثر جنونا من المجانين..
_____
The Nicene & post – Nicene Fathers. 1 st Series Vol. 10: Homily LXXXI.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-matthias-farid/disciples/passover.html
تقصير الرابط:
tak.la/7ygbc6h