كان رامي شابًا ذكيًا، متميزًا، متفوقًا، ولم يكن مرتبطًا بالكنيسة كما يجب، واستهوته الفلسفة وبعض القراءات العقلانية الأجنبية، وقرأ... وقرأ، وتعمق، وإن لم يكن عنده أساس روحي كافي، بدأ يتشكك في كل شيء.
وكان رامي حين يناقش زملاءه في كلية الآداب، وحتى المتدينين منهم، لم يجد جوابًا شافيًا لأسئلته، فبدأ يتهكم على كل ما هو ديني. ولم يقدر أحد أن يجادله بسبب فصاحته وبلاغته ومعلوماته الغزيرة التي يفتخر بها، وأسماء الفلاسفة التي يحفظها وكلامهم الذي يدعو أحيانًا للتشكك.
وابتعد رامي بالأكثر عن الكنيسة، ولم يعد يقتنع بأي اجتماع روحي أو أب روحي. وحاول والديه أن يرداه ولكنه نظر إليهما على أنهما لم يقرئا ولم يعرفا ما يعرفه وأنهما من صفوف الجهال الذين لا يفهمون.
ودخل رامي مع مجموعة من أشباه الملحدين الذين يتنكرون لكل ما هو ديني، ويعتبرون الدين أفيون الشعوب، بعضهم ينكر وجود الله، وبعضهم يعتبر الإنسان هو الله، بعضهم لا يؤمن إلا بالعلم، وآخرون من مذهب اللاأدرية Agnostics الذين يقولون ليس هناك أحد يعرف الحقيقة (كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى). وتعثر رامي في تساؤلات بلا نهاية:
+ هل التطور هو البداية، وهل هناك خلق؟
+ إن كان الله موجودًا، فلماذا الظلم، ولماذا الشر، ولماذا الألم؟
+ هل المسيحية فقط هي الحقيقة، ولماذا لا يكون الآخرون أيضًا على حق؟
+ هل هناك حقًا حياة بعد الموت، وما هو الدليل؟
ألغاز وأفكار سحبته في طريق مظلم، وبدأ يشرب الخمور ويسهر سهرات شريرة ويضحك على كل من حوله، ويضحك أيضًا على حاله. وكان له صديق وفي "كريم" كان يحب "رامي" حقًا، وحين تركه الكثيرون، لم يستطع "كريم" أن يبتعد عنه.
حاول كثيرًا أن يناقشه، ولكن رامي كان يسخر من جهله وسذاجته ولم يكُف كريم عن الصلاة لصديقه. وفي يوم دعاه كريم للنزول معه إلى قرية فقيرة لتوزيع هدايا العيد للأطفال، تمّنع رامي أولًا، ولكن كريم دعاه بحجة أنه سيرى خبرات جديدة وعالم جديد قد يفيده في فكره ويرد على تساؤلاته.
وإن لم يجد "رامي" بديلًا من إلحاح "كريم"، سافر مع مجموعة الشباب وكان يحاول ألا يسخر منهم كما اعتاد احترامًا لصديقه. ولكنه كان ساخطًا على تدينهم وبساطتهم. ووصل رامي القرية ووجد آلاف من الأطفال في انتظارهم، ونسي رامي نفسه وأفكاره، وانهمك في توزيع هدايا العيد وتنظيم الأطفال، وكم كانت سعادتهم بالهدايا البسيطة ومحبتهم للخدام الآتين إليهم.
وابتسم رامي حين كانوا ينادونه: "يا أستاذ، يا أستاذ... " وهو يقول في نفسه: "لو عرفوا أني لا أدخل كنائس ها تبقى فضيحة"، وكان يومًا شاقًا ولكن ممتعًا.
واستضافهم عمدة القرية المسيحي لغداء كريم بترحيب شديد. وعاد رامي مع كريم، ولم يهدأ فكره طوال رحلة العودة:
+ أنا عقلاني، وذكي، وعرفت، ولكني غير سعيد. هؤلاء البسطاء الفقراء والأطفال أكثر سعادة وأكثر حياة.
+ أنا وراء تساؤلاتي لم أصل إلا إلى حياة من الكآبة والشقاء والتدهور الأخلاقي، وهؤلاء الخدام بعملهم الإيجابي وتعبهم صاروا سبب إسعاد الكثيرين.
+ فقر البعض هو فرصة للبعض الآخر أن يخدم فتتعمق المحبة وتظهر الإنسانية في أجمل صورها.
+ هذا الكون الهائل لا بد له من خالق، ولكنه ترك الإنسان العاقل أن يشاركه ترتيب تفاصيله وتوازناته.
+ الحقيقة لا يمكن أن تكون اثنين، الحق وعكسه، هذا غير منطقي.
+ لم أجد راحة نفسية في كل هذا الذخر من الأفكار، بل مزيد من الكبرياء والانطواء والضياع.
+ لماذا لا أعترف أني لا أستطيع أن أفهم كل شيء؟ لعلني أحتاج أن أقرأ الإنجيل كتلميذ وليس كناقد.
+ إن كانت هناك حياة حقيقية، فهي في الحب والعطاء وإسعاد الآخرين، وهذه الحياة الشاقة التي نحياها، من المنطقي أن تنتهي لتبدأ حياة أكثر سعادة ليس فيها تعب ولا خطية ولا موت.
رحلة العودة كانت بمثابة استنارة داخل عقل رامي، وظل الثلاث ساعات صامتًا يفكر، وأخيرًا تحركت دموعه قبل الوصول للكنيسة، وصلى لأول مرة من سنين:
"يا رب سامحني على عِندي وكِبريائي، اقبلني وعلمني وهبني أن أبدأ".
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-dawood-lamey/service/rationality.html
تقصير الرابط:
tak.la/c4pn9m6