يتحدث القديس غريغوريوس عن أزلية الثالوث فيثير هذا التساؤل: إذا سألنا متى وجد الآب؟ فتكون الإجابة: لم يوجد وقت خالى من وجوده. وإذا سألنا: متى وُلد الإبن؟ الإجابة: عندما كان الآب غير مولود. ومتى إنبثق الروح القدس؟ الإجابة: منذ كان الإبن مولودًا بمعزل عن الزمن وبطريقة تفوق الوصف.
على أن القديس غريغوريوس يلاحظ أن إستعمال الألفاظ: متى، منذ.. هو إستعمال لألفاظ زمنية بينما نحن نعالج موضوعًا هو فوق الزمن. ولذلك -فيما يقول- علينا أن نعتمد لفظًا لا يدخل في نطاق الزمن، هذا اللفظ هو الأبدية. الأبدية ليست زمنًا لا نهائيًا. هذا تعريف خاطئ. طبيعة الأبدية غير طبيعة الزمن. فالأبدية لا تقبل التقسيم كما بالنسبة للزمن، ولا تقاس بالحركة ولا تخضع لدورة الشمس. لا يخضع للزمن من يصدر عنهم الزمن. (خطاب 3:29).
ثم يتحدث عن العلاقة في الثالوث فيقول:
نقول عن الآب إنه أزلى وإنه بغير مبدء. فإذا كان الإبن أزليًا، وكذلك إذا كان الروح القدس أزليًا أفليس من اللازم أن يكونا مع الآب بلا مبدء (بدايه)؟
ويضع التساؤل في صياغة مشابهة فيقول:
نقول عن الآب أنه بلا مبدأ، فهل نقول عن الإبن أيضًا أنه بلا مبدأ، وهكذا أيضًا نقول عن الروح القدس أنه بلا مبدأ؟
الإجابة: ما لا مبدأ له أزلى. ولكن ما هو أزلى ليس بالضرورة بلا مبدأ. فالإبن أزلى فهو بلا مبدأ من حيث الزمن ولكن له مبدأ من حيث العلة، على أساس أن العلة ليس بالضرورة تسبق معلولها سبقًا زمنيًا. إن العلة والمعلول يوجدان معًا بلا سبق زمنى، كما هو الحال بالنسبة للشمس والنور الصادر عنها، فالشمس لا تكون سابقة لنورها. (خطاب 3:29).
وقد تكلم عن الآب فقال:
+ إن لفظ " الآب " ليس إسم جوهر ولا إسم فعل. إن قلنا أنه إسم جوهر جعلنا الإبن من جوهر آخر، وإن قلنا إنه إسم فعل إعترفنا إعترافًا واضحًا بأن الإبن مخلوق لا مولود، إذ حيث يكون الفاعل يكون من وقع عليه الفعل. إن الآب ليس إسم جوهر ولا إسم فعل، إنه إسم علاقة، إسم يدل على ما هو الآب بالنظر إلى الإبن أو ماهو الإبن بالنظر إلى الآب (خطاب16:29).
+ لم يكن للآب بدء في كينونته ولا بدء في أبوته، فمن كان لكينونته بدء، كان لأبوته بدء أيضًا. فالكينونة بالنسبة للآب لا تسبق الأبوة، والأبوة بالنسبة للآب لا تعقب الكينونة. فالأبوة والكينونة يرتبطان معًا بالنسبة للآب ولا يسبقهما أي بدء.
الأبوة في الآب تختلف عن الأبوة في البشر. الآب أب بالمعنى الحقيقى، بينما الأبوة في عالم البشر ليست أبوة في مدلولها الحقيقى. في عالم البشر يكون الأب أبًا وفي نفس الوقت إبنًا، فلسنا آباء في مدلول الكلمة الخالص، ولسنا أبناء في مدلول الكلمة الخالص. أما بالنسبة لله فالآب آب، والإبن إبن، أي أن الآب في الثالوث هو آب بالمعنى الحقيقى للكلمة لأنه لا يكون إبنًا، والإبن هو إبن بالمعنى الحقيقى لأنه لا يكون آب أيضًا. فلفظ الآب والإبن إذن ليس لهما مدلول حقيقى في عالم البشر.
وثمة خلاف آخر في عالم البشر: إننا من أبوين إثنين لا من واحد، ولهذا كان فينا إنقسام.
وخلاف ثالث أيضًا: نحن لا نبلغ شأن الرجال إلاّ شيئًا فشيئًا، وقد يتعرض أحد للموت قبل أن يصير رجلًا.
وخلاف رابع: إننا ننفصل عن أهالينا وينفصل عنا أهالينا، بحيث لا يبقى سوى علاقات خالية من الحقيقة. (خطاب5:29).
ومن هنا أوضح لنا معني الابن وكينونته، فقال:
أولًا: من حيث الولادة
نحن نستغرب القول بإن الله يلد، لأننا نضع في ذهننا الولادة كما نراها في عالمنا الجسدانى، وكأنك تقول إن الله لا يمكن أن يلد إلاّ بحسب صورة الولادة التي نراها في عالمنا المادى، مثل ولادة الطيور والحيوانات الأرضية والمائية. فنحن نذهب إلى تشبيه الولادة الإلهية التي لا يمكن وصفها بأحدى هذه الولادات. وهذا يدعوك إلى أن تنكر أن الآب ولد إبنًا، أو تنكر بأن يكون الإبن المولود هو الله، لأنه طالما أن مفهوم الولادة في ذهنك هو مفهوم مادى، فإنك لا تستطيع أن تتصور فرقًا بين من يولد بالجسد، وبين الولادة الإلهية، أو لا تستطيع أن تتمثل الولادة الإلهية إلاّ بولادة جسدية، بينما من كانت طبيعته غير طبيعتنا، كانت ولادته غير ولادتنا. (خطاب 4:29).
بالطبع إذا كانت الولادة بغير إرادة يكون الله مكرهًا عليها، ويكون التساؤل: من الذي أكرهه؟ وكيف يكون المكره إلهًا؟
إذا كانت الولادة بإرادة كان الإبن إبن الإرادة، فكيف يكون إبن الآب بالطبيعة؟
التساؤل هنا يفرق بين المولود بالإرادة والمولود بالطبيعة. وبالطبع لو أن الإبن ولد بالإرادة وليس بالطبيعة فيكون الإبن مخلوقًا.
بلا شك أن الإبن مولود بالطبيعة، ولكن هل من هو مولود بالطبيعة بالنسبة لله لا يكون بالإرادة.
هذه مغالطة من المعترض، فما يصدر لا يصدر عن الإرادة وحدها بل عن المريد. المراد ليس للإرادة بل للمريد. إن الله يلد الإبن بالطبيعة ويريد هذه الولادة (خطاب6:29).
هذا يمكن أن يكون بالنسبة للخالق والمخلوق ولكن ليس بالنسبة للآب والإبن لأن طبيعتهما واحدة. من يلد ومن يولد هما واحد من حيث الطبيعة والجوهر. هذا الإختلاف يمكن أن يكون لو أن اللا مولودية هي جوهر الله،، فيكون في الله خليط بين اللا مولود والمولود، وهو أمر يحملنا إلى أدخال الأضداد إلى جوهر الله.
*أما عن الروح القدس:-
يتكلم القديس غريغوريوس عن علاقة الروح القدس بالآب والإبن فيقول: إن الروح القدس ليس " غير مولود " ولا " مولود "، لأنه لو كان " غير مولود " يكون هناك مبدءان، وإذا كان مولودًا، فهذا يؤدى إلى انقسام أبعد، فهو يولد إما من الآب أو من الإبن، وإذا ولد من الآب يكون له إبنان آخران، وأما إذا ولد من الإبن يكون لنا عندئذ إله حفيد. إن الروح القدس الذي ينبثق من الآب ليس مخلوقًا، ومن حيث إنه ليس مولودًا فهو ليس إبنًا، وبقدر ما هو وسط بين اللا مولود والمولود فهو الله.
ويُطلق على " غير المولود " و" المولود " و" المنبثق " أسماء: الآب والإبن والروح القدس، ويحتفظ بذلك بالتمييز بين الأقانيم الثلاثة ذات الطبيعة الواحدة وكرامة الألوهة الواحدة. فالإبن ليس هو الآب لأن هناك أبًا واحدًا، ولكنه هو ما هو الآب. والروح القدس ليس هو الإبن لمجرد أنه من الآب، ذلك لأن وحيد الجنس هو واحد، ولكنه (أي الروح) هو ما هو الابن. الثلاثة هم واحد في الألوهة، والواحد هو ثلاثة في الأقانيم. وهكذا لا يكون لدينا الواحد الذي قال به سابيليوس، ولا يكون لدينا ثالوث حسب الإنقسامات الشريرة المعاصرة. ويؤكد القديس غريغوريوس أن الروح القدس هو الله وهو من نفس الجوهر الذي للآب.
ويتقدم القديس غريغوريوس ليثبت أن الأقانيم الثلاثة هم إله واحد، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ويتساءل: لماذا تدعوننا ثلاثيى الآلهة. نحن لنا إله واحد لأن الألوهية واحدة، واللذان يأتيان منه يشيران إلى الواحد، وإن كنا نؤمن بهم ثلاثة، وليس الواحد " الله الأكثر " والآخر " الله الأقل ". ليس الواحد أقدم والآخر أحدث. ليس هناك إنقسام في المشيئة ولا تجزئة في القدرة، ولا يوجد فيهم شيء مما نجده في الأشياء القابلة للقسمة. ولكن الألوهية في تعبير موجز، غير منقسمة في أقانيم متميزة، كما على سبيل المثال - في شموس ثلاث، الواحدة في الأخرى، يكون لها مزيج واحد من النور. فعندها ننظر إلى الألوهة، إلى العلة الأولى والمونارخيا، فإن ما ندركه هو واحد، بينما عندما نتطلع إلى من فيهم الألوهية واللذين يأتيان من العلة الأولى، لا في زمن، ولهما نفس المجد، فإنهم يكونون ثلاثة، هؤلاء الذين نعبدهم. إن كل واحد من هؤلاء الثلاثة يوجد في وحدة مع الآخر ليست بأقل مما هي مع نفسه، وذلك بسبب ما لهم من نفس الجوهر ونفس القدرة. هذا هو علة وحدتهم.
إن العهد القديم كرز بالآب بوضوح وبالإبن بغموض. والعهد الجديد أظهر الإبن وأوحى بألوهية الروح القدس. والآن يسكن الروح فينا ويمدنا بشهادة أوضح عن نفسه. ولم يكن مأمونًا، أن يُعلن الإبن بوضوح، حينا لم تكن ألوهية الآب قد عُرفت بعد. ولا قبل التسليم بألوهية الإبن أن نُثّقل (إذا جاز التكلم بأكثر جرأة) بإعلان الروح القدس، وإلاّ كان للبشر كمن يتثقلون بطعام أكثر مما يحتملون، أو كمن يوجهون أنظارهم، وهي أضعف من أن تحتمل، إلى نور الشمس، ويخاطرون بفقدان حتى ما كان في حدود طاقتهم. ولكن بإضافات تدريجية، وكما يقول داود النبي بالترقى إلى أعلى وبالتقدم من مجد إلى مجد، فإن نور الثالوث يتلألأ على من هم أكثر إستنارة. ولأجل هذا السبب، كما أظن، جاء الروح بالتدريج ليسكن في التلاميذ آخذًا في الاعتبار قدرة الذين يتقبلونه، أي في بداية الإنجيل عندما عمل المعجزات، وبعد الآلام بالنفخ في وجوههم، وبعد الصعود بالظهور في ألسنة من نار. ولقد كشف يسوع عن الروح شيئًا فشيئًا، كما سوف تدرك أنت بنفسك إذا كنت تقرأ بأكثر إنتباه ما يقوله " وأنا أطلب من الآب، فيعطيكم معزيًا آخر روح الحق" (يو16:14،17) حتى لا يعتقد أحد أنه مضاد لله، أو كما لو أنه يتكلم بسلطان قوة أخرى. وهو بعد ذلك يربط كلمة " سيرسله " بعبارة " بإسمى " (يو26:14) أي أنه ترك لفظة " أطلب " وإحتفظ بـ"سيرسله" (يو6:16)، ويتبع ذلك قوله " أرسله " (يو7:16)، حتى يظهر بهذا كرامته الخاصة. ثم يقول متى جاء (يو8:16) ليشير إلى سلطان الروح.
إنه ينبغى علينا فيما يقول القديس غريغوريوس أن نكرم الله الآب والله الإبن، والله الروح القدس، ثلاثة أقانيم، لاهوت واحد لا ينقسم في المجد والكرامة والجوهر والملك.
وفي خطابه الواحد والأربعين في يوم الخمسين، يتحدث القديس غريغوريوس عن الروح القدس من حيث إنه هو الله الخالق، ويؤكد أن الثالوث إله واحد. وهو يشير إلى هؤلاء الذين يضعون الروح بين المخلوقات، ويصفهم بأنهم مجدفون وعبيد أردياء، بل أردء الأردياء. إن الروح القدس -كما يقول- موجود دائمًا وهو يوجد الآن وسوف يوجد على الدوام، ليس له بداية ولن تكون له نهاية. وهو دائمًا يُحسب ويرتب مساويًا للآب والإبن، لأنه لم يكن من المناسب أبدًا أن يوجد الإبن بدون الآب أو الروح بدون الإبن، لذلك فهو دائمًا يُشترك فيه ولا يأخذ من يُشتَرك أحد، كامل لا يحتاج أن يتكامل. هو ملء لا يحتاج لأن يمتلئ، هو يقدس ولا يتقدس، إله ولا يكتسب الألوهية. هو دائمًا نفس الشيء لنفسه ولمن يرتب معهما (الآب والإبن)، غير مرئى، أبدى، لا يحده مكان، ولا يتغير، لا كيف له ولا كم، بلا هيئة، غير محسوس، ذاتى الحركة ومتحرك دائمًا، ذو إرادة حرة، له قوة في ذاته (على الرغم من أن كل ما هو للروح -كذلك كل ما هو للإبن- يُنسب إلى العلة الأولى)، وهو الحياة والمحيى، النور وواهب النور، صالح بذاته ومصدر الصلاح، روح الإستقامة وروح السيادة، الرب المُرسِلَ، المُفْرِز، بانى الهيكل لنفسه، المرشد، الفاعل حسب ما يشاء، الموزع المواهب، روح البنوة والحق والحكمة والفهم والمعرفة والتقوى والمشورة والقوة والخوف (وهي الصفات التي يُنعت بها)، به يُعرف الآب ويمجد الإبن، وبهما فقط هو يُعرف. كيان واحد، عبادة واحدة، سجود واحد، قوة واحدة، كمال واحد، قداسة واحدة. إن كل ما للآب هو للإبن ما عدا " اللاولادة " وكل ما للإبن هو للروح القدس ما عدا " الولادة "، وهذه لا تُقسم الجوهر بل هي تميزات (أقانيم) للجوهر الواحد.
المزيد من القديس غريغوريوس النزينزي عن الثالوث(2):
إن تعاليم القديس غريغوريوس عن الثالوث القدوس هي نفس تعاليم القديس أثناسيوس الأسكندرى في جوهرها.
وفيما يلى بعض عبارات من تعاليمه عن الثالوث الأقدس:
كان القديس غريغوريوس لاهوتيًا متضعًا، ففي خطابه اللاهوتي الثاني سلَّم بأنه " لم يوجد بعد إنسانًا اكتشف أو يمكنه أن يكتشف ما هو الله في طبيعته وفي جوهره".
وقال أيضًا:
"كان الله ليكون محاطًا (ملمًا به) بالكلية، إذا كان مدركًا ولو في العقل، لأن الإدراك هو أحد أشكال الإحاطة (الإلمام)".
فقد شرح أن معرفتنا لله هي تدفق قليل فقال: "إن كل ما يصلنا ما هو إلا دفق قليل، وحيث أنه بثق ضئيل من نور عظيم. حتى أنه إذا عرف أحد الله، أو كان له شاهدًا من الأسفار في معرفته عن الله، فإننا نفهم أن هذا الشخص يمتلك درجة من المعرفة أعطته مظهرًا من الإستنارة الكاملة أكثر من غيره من الذين لم يتمتعوا بنفس درجة الاستنارة ".
ولكن القديس غريغوريوس تكلم عن معرفة أوضح بالله في الحياة الأخرى.
عرَّف القديس غريغوريوس في تعاليمه، الخواص المتمايزة للثلاثة أقانيم. فقد علَّم قائلًا: "دعنا نحد أنفسنا في إطار حدودنا فنتكلم عن اللا مولود والمولود وذاك الذي ينبثق من الآب، كما قال الله الكلمة نفسه في مكان ما."
وعلَّم أيضًا بأن:
" هذا ما نقصده بالآب والإبن والروح القدس. فالآب هو الوالد والباثق؛ بدون ألم (هوى - شهوة) طبعًا، وبلا إشارة لزمن، وليس بطريقة حسيَّة. والإبن هو المولود والروح القدس هو المنبثق".
لم يذكر القديس غريغوريوس أية صفات أخرى للتمايز.
إستكمل القديس غريغوريوس مناقشته في نفس الخطاب اللاهوتي قائلًا:
"متى وجد هذين (الإبن والروح القدس)؟ إنهما فوق كل "متى". لكن إن كان لى أن أتكلم بأكثر جسارة لأجبت "حينما وجد الآب". ومتى وجد الآب؟ لم يكن هناك زمن لم يكن فيه الآب موجودًا. ونفس الشيء ينطبق على الإبن والروح القدس. سلنى ثانية وثالثة فسوف أجيب: متى ولد الإبن؟ حينما لم يكن الآب مولودًا. ومتى انبثق الروح القدس؟ حينما لم يكن الإبن منبثقًا بل مولودًا - فوق حيز الزمن، وفوق إدراك العقل؛ رغم أننا لا نستطيع أن نوضح ذاك الذي هو فوق الزمن، إذا تحاشينا كما نرغب أي تعبير ينقل فكرة الزمن. لأن بعض هذه التعبيرات مثل "متى" و"قبل" و"بعد" و"من البدء" ليست بلا حدود زمنية مهما حاولنا دفعها لذلك، إلا إذا تناولنا الدهر حقًا بالفعل، تلك الحقبة المصاحبة للأمور الأزلية، والتي لا تنقسم أو تقاس بأى حركة، أو بثورة الشمس كما يقاس الزمن. كيف إذًا هما غير متشابهين في كونهما غير نابعين إذا كانا أزليين؟ ذلك لأنهما (الإبن والروح القدس) منه (الآب) رغم أنهما ليسا بعده. لأن النابع أزلى، لكن هذا الأزلى ليس بالضرورة غير نابع، طالما يشار إلى الآب كأصل له. إذًا من جهة السبب هما غير نابعين، لكن من الواضح أن السبب لا يسبق آثاره بالضرورة، لأن الشمس لا تسبق نورها. رغم ذلك هما بطريقة ما غير نابعين من حيث الزمن، مع أنكم ترهبون بسطاء العقول بمراوغتكم، لأن منابع الزمن لا تخضع للزمن".
إلى جوار استخدام القديس غريغوريوس لتشبيه الشمس والضوء، فقد إستخدم أيضًا تشبيه العقل والكلمة كمثال آخر لشرح العلاقة بين الآب والإبن:
"يدعى الكلمة لأنه يرتبط بالآب كارتباط الكلمة بالعقل".
ويتضح من هذا المثال أن العقل أيضًا لا يسبق الكلمة كما أن الشمس لا تسبق الضوء.
بالرغم من أن القديس غريغوريوس إستخدم كلًا من تشبيه " الشمس والضوء" وتشبيه " العقل والكلمة " في شرح العلاقة بين الآب والإبن، إلا أنه حَذَّر من أن هذه التشبيهات ليست مطابقة للحقيقة الكاملة التي لله المثلث الأقانيم.
ويستكمل كلامة فيقول:
"لقد تَبَصَّرت في هذا الأمر بحرص شديد في عقلى الخاص، ونظرت إليه من كل وجهات النظر، حتى أجد بعض الإيضاحات لهذه المادة ذات الأهمية القصوى، لكننى لم أكن قادرًا على اكتشاف أي شيء على الأرض يمكن أن تقارن به طبيعة اللاهوت. لأننى حتى إذا حدث أن وجدت شبهًا طفيفًا فقد أفلت منى الجزء الأكبر، وتركنى في الأعماق السفلى مع مثلى. صورت لنفسى عين ونبع ونهر، كما عمل آخرين من قبل، لأرى إذا أمكن أن يكون الأول مماثلًا للآب، والثانى للإبن، والثالث للروح القدس. لأنه لا يوجد تمايز زمنى فيهم ولا تمزق في صلتهم ببعضهم البعض، رغم أنه يبدو أنهم مفترقين إلى ثلاثة أشخاص. لكننى في المقام الأول خشيت أن أقدم تدفقًا في اللاهوت غير قابل لأن يتوقف بلا حراك، وفي المقام الثاني خشيت أنه بهذا المثل نقدم وحدة متعددة. لأن العين والينبوع والنهر هم واحد في العدد لكن في أشكال مختلفة.
ثم أننى فكرت في الشمس والشعاع والضوء، ولكن هنا أيضًا كان هناك خوف لئلا يأخذ الناس فكرة التركيب عن الطبيعة غير المركبة، كما هو الحال في الشمس والأشياء التي فيها. ومن جهة أخرى لئلا ننسب الجوهر للآب وننفى الأقنومية عن الآخرين (الابن الروح القدس)، بجعلهم مجرد طاقات في الله، كائنين فيه وليسا أشخاصًا. لأن كل من الشعاع والضوء ليسا شمسًا، لكنهما دفق منها وصفات لجوهرها. ولئلا، في الشرح، ننسب الوجود وعدم الوجود لله الذي هو أكثر هولًا".
تكلّم القديس غريغوريوس مرات عديدة عن الجوهر غير المنقسم لثلاثة أقانيم الثالوث القدوس. ففي حديثه عن الله المثلث الأقانيم كسيد واحد (Monarch) بالنسبة لخليقته قال:
"لكننا نوقر الأصل الواحد μονάρχη. لكن تلك المونارشية غير محصورة في أقنوم واحد، إنما هي لطبيعة متساوية، ووحدة في العقل، وتماثل في الحركة، وفي ميل عناصرها للوحدة - وهو الشيء المستحيل بالنسبة للطبيعة المخلوقة - حتى أنه على الرغم من التمايز العددى إلا أنه ليس هناك فصل في الجوهر".
وأيضًا في تعليمه عن الابن قال:
" في رأيى دعى الإبن ابنًا لأنه مطابق للآب في الجوهر، وليس فقط لهذا السبب، وإنما أيضًا لأنه منه. وهو يدعى الإبن الوحيد الجنس ليس لأنه الإبن الوحيد ومن الآب وحده، وإبن فقط، إنما أيضًا لأن طبيعة بنوته خاصة بشخصه ولا تتشارك مع أجساد. ويدعى الكلمة، لأنه يرتبط بالآب كإرتباط الكلمة بالعقل؛ ليس فقط بسبب الولادة بلا ألم وإنما أيضًا بسبب الوحدة وبسبب دوره الإيضاحي".
ويقول البابا أثناسيوس:
"يجب علينا ألا نتصور وجود ثلاثة جواهر منفصلة عن بعضها البعض في الله -كما ينتج عن الطبيعة البشرية بالنسبة للبشر- لئلا نصير كالوثنيين الذين يملكون عديدًا من الآلهة. ولكن كما أن النهر الخارج من الينبوع لا ينفصل عنه، وبالرغم من ذلك فإن هناك بالفعل شيئين مرئيين واسمين. لأن الآب ليس هو الابن، كما أن الابن ليس هو الآب، فالآب هو أب الابن، والابن هو ابن الآب. وكما أن الينبوع ليس هو النهر، والنهر ليس هو الينبوع، ولكن لكليهما نفس الماء الواحد الذي يسرى في مجرى من الينبوع إلى النهر، وهكذا فإن لاهوت الآب ينتقل في الابن بلا تدفق أو انقسام. لأن السيد المسيح يقول "خرجت من الآب" وأتيتُ من عند الآب. ولكنه دائمًا أبدًا مع الآب، وهو في حضن الآب. وحضن الآب لا يَخْلُ أبدًا من الابن بحسب ألوهيته".
في خطاب القديس غريغوريوس اللاهوتي عن الروح القدس ضد الآريوسيون والأنوميون علّم قائلًا:
"يقولون ماذا بعد، هل هناك عجز في الروح يمنع كونه إبنًا، لأنه إن لم يكن هناك عجز لصار إبنًا؟ نحن نؤكد أنه ليس هناك شيئًا ناقصًا في الله لأن الله ليس فيه أي نقص. لكن الإختلاف هو في الكشف إذا كان لى أن أعبِّر هكذا، أو في علاقتهم (الأقانيم) المتبادلة الواحد بالآخر، هي التي سببت إختلاف أسمائهم. لأنه حقًا ليس بسبب وجود بعض العجز في الإبن هو ما منعه عن كونه آبًا (لأن البنوة ليست عجزًا) ولكن رغم ذلك هو ليس آبًا. وفقًا لهذا الخط من النقاش لابد أن يكون هناك عجزًا في الآب، فيما يتعلق بعدم كونه إبنًا. لأن الآب ليس إبنًا، وليس هذا نتيجة لعجز أو إخضاع للجوهر، لكن نفس حقيقة أنه غير مولود أو مولود أو منبثق هي ما أعطت الأول إسم الآب والثانى الإبن والثالث الذي نتكلم عنه الروح القدس، حتى أن التمايز بين الثلاثة أقانيم يكون محفوظًا في الطبيعة والكرامة الواحدة التي للاهوت. لأن الإبن ليس أبًا، لأن الآب واحد، لكن الإبن هو كالآب؛ كما أن الروح القدس ليس إبنًا لأنه من الله، لأن الإبن الوحيد الجنس واحد ولكنه (الروح القدوس) كالابن. الثلاثة هم واحد من حيث اللاهوت، وهم ثلاثى واحد من حيث الخواص (*)، حتى أن الوحدة ليست وحدة سابيلية، كما أن ملامح التثليث ليست في التمايز الشرير الحاضر."
ومن هذا العرض البسيط يتضح لنا كيف شرح القديس غريغوريوس النزينزي الثالوث من حيث:
الله غير مدرك في عقلنا البشرى، الخواص الأقنومية للثلاثة أقانيم المتمايزة في الثالوث الأقدس، أزلية وجود الإبن والروح القدس، استخدام التشبيهات والأمثلة في شرح الثالوث الأقدس، الثلاثة أقانيم لها نفس الجوهر الواحد، المساواة بين الثلاثة أقانيم.
* المسيح وُلد، والروح هو السابق له. المسيح اعتمد والروح حمل شهادة له. المسيح جُرّب، وهو الذي عاد به (إلى الجبل). المسيح صنع عجائب، والروح رافقه. المسيح صعد، والروح خلفه.
* أعمال المسيح الجسمانية انتهت، وأعمال الروح تبدأ.
* إن كان الروح لا يُعبد، فكيف يمكنه أن يؤلهني في المعمودية؟.. من الروح ننال ما يجددنا. هكذا أنتم ترون الروح يعمل بكونه اللَّه واهب المِنح لنا. هكذا أنتم ترون ما نُحرم منه إن أنكرنا أن الروح هو اللَّه. بالروح أعرف اللَّه. هو نفسه اللَّه، وفي الحياة الأخرى يؤلهني.
* الروح القدس هو في الواقع روح، يصدر بالفعل عن الآب، ولكن ليس بذات الطريقة التي لإصدار الابن، إذ يتم لا بالولادة بل بالانبثاق.
وننتقل إلي حامي الإيمان لكي نري ونقرأ كيف شرح الثالوث القدوس.
_____
(1) مقتطفات من مقال لدكتور موريس تاوضروس.
(2) عن دورية يوليو 2001 – المركز الأرثوذكسي للدراسات الأبائية.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-botros-elbaramosy/ebooks/patristic-trinitarian/gregory-theologian.html
تقصير الرابط:
tak.la/jwb68q8