استشعر القديس مرقس هذه الحاجة الماسة إلى تأسيس مدرسة بعد دخوله الإسكندرية للقيام برسالته التبشيرية، وكان ذلك خلال النصف الثانى من القرن الأول الميلادى، وقد عهد بإدارة هذه المدرسة إلى القديس يسطس، الذي أصبح فيما بعد أسقفا للإسكندرية.
وكانت المدرسة اللاهوتية في بداية عهدها ذات طابع تعليمى بسيط، فكانت تُسَمَّى "ديداسكاليون" Didascalicon، وكان التعليم بها يتم بطريقة السؤال والجواب، وكان تعليمها في البداية متجها إلى الموعوظين والمبتدئين في الإيمان المسيحى، فكانت تضم طالبى العماد من وثنيين ويهود، ومن ثم كانت المدرسة تقدم لهم الدراسات التي تؤهلهم لنوال سر المعمودية.
وقد أخذت المدرسة بنظام التدرج، فغالبا ما كانت الدراسة تبدأ فيها بسلسلة من العلوم العلمانية، أي غير الوثنية، ومن خلالها يجتذب الأستاذ غير المؤمنين إلى الإيمان الصحيح.
شهرة المدرسة لم تظهر بوضوح إلا في غضون القرن الثانى وأوائل القرن الثالث على أيدى مديريها الفلاسفة المشهورين أثيناغوراس وبنتينوس وإكليمنضوس وأوريجانوس وديونيسيوس، ثم توقف نشاطها قليلًا أو تعطل بعض الشيء في أواخر القرن الثالث، إذ أبعدت الاضطهادات عنها، أساتذتها وطلبتها، غير أنها لم تلبث أن عادت في غضون القرن الرابع إلى مجدها على يد مديرها العظيم ديديموس الضرير، واستمرت في القرن الخامس الميلادى.
ولم تكن مدرسة الإسكندرية اللاهوتية Catechetical School of Alexandria في الواقع هي المدرسة اللاهوتية الوحيدة في العالم المسيحى، إذ كانت هناك مدارس مسيحية في بلاد أخرى، غير أنها لم تستطع واحدة منها أن تبلغ المرتبة العظيمة التي بلغتها مدرسة الإسكندرية ومدى تفوقها في كل ما يُدرس فيها من علوم مختلفة، ولذلك فكثيرا ما تم اختيار بطاركة الإسكندرية من بين مديرى هذه المدرسة.
وقد أعطى ذلك لبطاركة الإسكندرية مركز الزعامة الفكرية والعلمية واللاهوتية في العالم المسيحى كله، إذ كان كثيرون من أساقفة العالم المشهورين، تلاميذ لهم تخرجوا على أيديهم
أو على أيدى تلاميذهم في مدرسة الإسكندرية، وظلوا بعد رسامتهم أساقفة على صلة بأساتذتهم ولذلك كان بطريرك الإسكندرية ملقبا بلقب " قاضى المسكونة " أو " قاضى المسيحية في العالم "
وقد رأينا فيما سبق أنه كان ثمة حاجة ماسة لأن تقوم بالإسكندرية مدرسة مسيحية قوية لتشرح اللاهوت المسيحى شرحًا واضحًا ومقنعًا، وفي نفس الوقت لتجابه الأفكار والفلسفات التي كانت تشكل خطرًا عليها، ولاسيما أن العالم كان قد عرف في ذلك الحين أشكالًا مختلفة من الأفكار الغنوسية التي تنطوى على خليط من العقائد الوثنية واليهودية والشرقية على العموم، ولكن يجمع بينها مبدأ واحدًا يسودها كلها، وهو إحلال العقل والمعرفة محل الوحى والإيمان، وكان فلاسفتها يزهون بأنفسهم، زاعمين أنهم وحدهم العارفون بالله.
ولما كان خريجو مدرسة الإسكندرية اليونانيون يفاخرون بأنهم فضلًا عن الفلسفة، يجيدون كل العلوم الأخرى التي يدرسونها، لتخلق من كل منهم، الإنسان المثقف القادر على الخوض في أي نقاش يثور حول أي علم من العلوم، كان واجبًا محتمًا على مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، فضلًا عن تدريس العقائد المسيحية أن تقوم بتدريس هذه العلوم جميعًا، حتى لا يستشعر أي خريج منها أي ضعف أو هزيمة، في مواجهة أولئك العلماء الوثنيين.
ومن ثم وضعت على عاتق العلماء اللاهوتيين رسالة مقدسة، هي أن يحملوا الشعلة المسيحية أمام علماء العالم كله.
وبالفعل نجحوا في ذلك نجاحًا ظاهرًا وباهرًا، حتى لقد أصبحت مدرسة الإسكندرية اللاهوتية هي المنارة العالمية والوهاجة للمسيحيين، ليس في مصر وحدها، وإنما في العالم كله، وقد احتفظت بأروع مستوى من الحكمة السامية والروحانية العميقة ولا سيما خلال القرن الثانى الميلادى، حتى إنضم أثيناغوراس، وهو أحد الفلاسفة الرواقيين القدماء إلى تلك المدرسة، التي أصبحت قادرة على أن تناظر علماء المدرسة اليونانية في كل العلوم.
ثم في عهد إكليمنضوس وأوريجانوس بلغت تلك المدرسة أسمى درجات المجد، وفاقت كل المدارس المسيحية التي أنشئت في العالم خلال القرون الأولى الميلادية، وصارعت وانتصرت على كل العقائد الأخرى، التي قام علماؤها ضد المسيحية، ومنهم علماء الديانة اليهودية وفلاسفة اليونان وأصحاب الغنوسية، والمبتدعون الهراطقة ولا سيما بدعة آريوس التي أقلقت الكنيسة في أزمانها الأولى، وبدع السابليين والمانيين وغيرهم
وهكذا نجحت المدرسة اللاهوتية كل هذا النجاح، على الرغم من أنه لم يكن هناك بناء مخصص لها، ولا مكتبة خاصة بها، وإنما كان أساتذتها يلقون محاضراتهم في منازلهم، أو في قاعات يستأجرونها لهذا الغرض، وكان الأساتذة، يذهبون إلى المكتبة الكبرى الملحقة بالمدرسة اليونانية للقراءة والاطلاع.
ولكن بدأت مدرسة الإسكندرية اللاهوتية تضعف من جراء انقسام الكنائس المسيحية في مجمع خلقيدونية عام 451 م. وقد بدأت الكنيسة القبطية تدخل في صراع مع الخلقيدونيين البيزنطيين، وكان من نتيجة ذلك أن أغلقت المدرسة أبوابها وانتقل تراثها العلمى واللاهوتى إلى دير الأنبا مقار بوادى النطرون.
شهد القديس جيروم أن مرقس الرسول قام بتأسيس مدرسة الإسكندرية المسيحية فقد أوحى له بالروح القدس أن يقيمها للتعليم بالمسيحية، كطريق لتثبيت الدين الجديد في هذه المدرسة على أساس راسخ، سواء بالنسبة للذين من أصل أممى أو من أصل يهودي.
← انظر أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت: قسم تاريخ البطاركة.
ليس لدينا بالتفصيل صورة عن سمات المدرسة وبرامجها ومنهجها ولكننا نستطيع أن نتكشف الخطوط العريضة خلال حياة آبائها وتراثهم الكتابى.
ا- بدأت مدرسة الإسكندرية كمدرسة من أمم ويهود لتعليم الإيمان المسيحى، تقدم لهم دراسات لنوال سر المعمودية. فتحت المدرسة أبوابها أمام الجميع..
2- أمام هذا الإنفتاح لم يكن ممكنًا أن تقتصر المدرسة في دراستها على اللاهوت وحده... بل كان برنامجها يقوم على أساس موسوعى شامل فكانت مركزًا للتعليم الفلسفى والعلمى كما للتعليم اللاهوتى.
3- أخذت بنظام التدرج فغالبًا ما تبدأ الدراسة بسلسلة من العلوم " غير الدينية "، من خلالها يكسب المعلم غير المؤمنين ويُقيم الأفكار الفلسفية والعلمية، ساحبًا القلوب نحو المعلم الوحيد يسوع المسيح.
تأتى بعد ذلك الأخلاقيات والسلوك الدينى ليس كغاية في حياة المسيحى إنما ليكون متشبها بالله، وأخيرا يدرس اللاهوت المسيحى في شكل تعليقات وشرح للكتاب المقدس.
يظهر هذا المنهج في مراحله الثلاث من الكتب الثلاث الرئيسية التي وضعها القديس إكليمنضس الإسكندرى الأول قدم منهجًا لغير المسيحيين خلاله يتعرف طالبوا العماد على أساسيات المسيحية دون الدخول في حرب مع الفلسفة.. والكتاب الثانى يمثل منهجًا أخلاقيًا غايته التشبه بالله، والثالث يمثل منهجًا متقدمًا خاصًا بالمعرفة " الغنوسية " للحق الإلهى...
4- إمتازت بعدم الفصل بين الدراسة والحياة الإيمانية التقوية. فكانت العبادة تمارس جنبًا إلى جنب مع الدراسة. يمارس المعلمون وتلاميذهم الصلاة والصوم وحياة النسك مع النقاوة بغية الدخول في طريق الكمال المسيحى.
5- عرفت المدرسة بإهتمامها بالبحث العلمى، فلم يكن الأساتذة مجرد محاضرين يلقنون الطلبة ما يريدون.... لكنهم بالأكثر كانوا يهتمون بتقديم المشورة في البحث والتنقيب مع المناقشة المستمرة.
كان الأستاذ أشبه بمرشد يعين تلاميذه على التعرف على المدارس الفلسفية المتنوعة بأنفسهم ويختاروا ما فيها من حق ويرفضوا ما فيها من بطلان...
6- قامت المدرسة أيضًا على العلاقات الشخصية بين الأساتذة وتلاميذهم.. فكانت أشبه بمجال للتلمذة في أسمى صورها. فكانت جزءًا لا يتجزأ من الحياة الكنسية... (التي في صميمها هي حياة تلمذة).
ظهرت هذه العلاقة الوطيدة في حياة القديس إكليمنضس الإسكندرى الذي قال عنه ج. باردى أنه رفع قلوب طلبته إلى الأعالى التي أعلنها بصبره وإبتسامته الدائمة.
هذه العلاقات دفعت المدرسة بقوة، فإنتقل إلى الطلبة، روح أساتذتهم وغيرتهم الدراسية وحياتهم التقوية.
كشفت المدرسة عن اتساع الفكر المسيحى بوجه عام، وروت ظمأ المسيحيين إلى المعرفة، وقدمت ضوءًا جديدًا على أهمية العلم والتعليم بوجه عام كما خلقت قادة في الفكر وفي العمل الكنسى الرعوى على المستوى المحلى والمسكونى.
1- اهتمام المدرسة بالفلسفة اليونانية ونزع عنها أي نظرة ضيقة نحو المسيحية كتراث إقليمى يرتبط بجماعة محلية أو ثقافة خاصة، وبهذا ربحت الكنيسة نفوس كثيرة للسيد المسيح من عينات مختلفة، على كافة المستويات الفلسفية والفكرية، لهذا عندما تحدث فارار عن اللاهوت المسيحى في مدرسة الإسكندرية قال: " الكرازة بالمسيحية أشبه بالطريقة التي تحدث بها الله قديمًا مع الآباء، تحمل سمة التعدد والتنوع. لقد قدمت للعالم حكمة غنية متنوعة، إذ وقفت الكنيسة أمام العالم كإبنة الملك التي ذكرها المرتل أنها ملتحفة بثياب مزركشة. تستطيع أن تكون بسيطة مع غير المتعلمين، وكيهودية مع اليهود، وكيونانية مع اليونانيين، وبمعنى صالح ولطيف انها كل شيء مع كل أحد.
-وصف شاف قدرة المدرسة على الكرازة بين الفئات المتباينة خلال اتساع نظرتها قائلا: " كانت من جهة حصنًا للكنيسة ضد الأشرار... ومن جهة أخرى كانت جسرًا للعبور من العالم إلى الكنيسة. كان الموعوظون شعبًا وخطباء ".
2- هذا الإتجاه جعل من أساتذة المدرسة رجالًا مسكونيين، ليس فقط لأنهم كسبوا كثيرين من ثقافات متنوعة، لكن إنفتاح فكرهم وجه أنظار الكنيسة الجامعة- في الشرق والغرب – إليهم وفي القرون التالية حمل رجالها أمثال القديس أثناسيوس الرسولى والقديس كيرلس الكبير مسئوليات كنسية على مستوى مسكونى.
كان من نتيجة ذلك ليس فقط أن صار لرجالها الصبغة المسكونية إنما تتلمذ على أيدي أساتذتها رجالًا من بقاع كثيرة، صاروا قادة فكر مسيحى. وحمل بعضهم أعمالًا رعوية في بلاد كثيرة، نذكر على سبيل المثال القديس غريغوريوس أسقف نيصص.
هذا وقد تلقت الكنيسة- في الشرق والغرب- الكثير من أعمال الدراسة بكل إجلال... تُرجمت باللغات المختلفة كاللاتينية والسريانية منذ القرون الأولى، ولا نبالغ إن قلنا أن كتابات آباء الإسكندرية لازالت تحمل آثار على الكنيسة في كل المسكونة. لهذا يهتم العالم بترجمتها إلى اللغات الحديثة الحية.
3- استطاعت المدرسة أن تروى ظمأ المسيحيين بالإسكندرية نحو المعرفة الدينية، وتحثهم على الدراسة والبحث. بهذا ساهمت المدرسة في إنشاء أول نظام للدراسات اللاهوتية في العالم، كانت بحق (مهد اللاهوت المسيحى).. منها خرج رجال قادرون على الرد على المهاجمين والدفاع ضد الأريوسية مثل القديس أثناسيوس.
4- قيام هذه المدرسة (أعطى للطلبة إمكانية الحصول على التعليم الذي تقدمه المدرسة الوثنية العظمى، لكن بواسطة معلمين مسيحيين).
5- أخيرًا، كانت المدرسة سندًا لكنيسة الإسكندرية، غالبًا ما يُختار أحد تلاميذها، بابا للإسكندرية... وكما يقول نيافة الأنبا غريغوريوس " امتد أثر المدرسة اللاهوتية إلى هنا وهناك، فاشتهر طلبتها بتقواهم واتساع مداركهم وتفكيرهم. وكانت النتيجة أن باباوات الإسكندرية كانوا يُختارون من بين رؤساء المدرسة وأساتذتها، كذلك الأساقفة والكهنة. كان رئيس المدرسة يعتبر الرجل التالى بعد البابا، سواء من الناحية العلمية أو الاجتماعية، وإن كان ليس من الجانب الكنسى أو الطقسى. فنحن نعلم أن القديس مرقس عين يسطس أول عميد للمدرسة، وقد صار البطريرك السادس، وهكذا مركيانوس البطريرك التاسع، وهيراقليس (ياروكلاس) الذي صار رئيسًا للمدرسة بعد أوريجانوس وأصبح البابا السادس عشر، وخلفه ديونيسيوس كرئيس للمدرسة وكبابا، وأيضا بطرس خاتم الشهداء كان رئيسًا للمدرسة وقد صار بابا الإسكندرية السابع عشر، ثم خلفه أرشيلاوس، هؤلاء جميعًا كانوا رؤساء للمدرسة قبل سيامتهم باباوات. لكن هناك باباوات كانوا من أساتذة المدرسة أو على الأقل من طلبتها، منهم ألكسندروس البابا التاسع عشر، والقديس أثناسيوس الرسولى العشرون، وتيموثاؤس الثاني البابا الثانى والعشرون، وكيرلس عمود الدين البابا الرابع والعشرون.
-بالحقيقة هذا هو سر القوة المخفية وراء كنيسة الإسكندرية في القرون الخمسة الأولى. هذا هو سر شهرة باباواتها وبطاركتها، إذ كانوا يحسبون كحراس للإيمان الأرثوذكسى، وبسبب إتساع أفقهم كانوا شغوفين بالمعرفة، فحسبوا "معلموا المسكونة" وكانت لهم الكلمة الأخيرة الفاصلة.
وإليك عزيزي الدارس في إيجاز شديد أهم الأعمال الرعوية في عهد بطاركة كنيسة الإسكندرية:
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-botros-elbaramosy/ebooks/pastoral-work/school-of-alexandria.html
تقصير الرابط:
tak.la/2zmptk5