"وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: «َكْثِيرًا أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَدًا. وَإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ». وَقَالَ لآدَمَ: «لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ امْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلًا: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ" (تك3: 16- 17).
لقد كَثَّرَ الله أتعاب حبل حواء بعد السقوط، فقد صارت تلد بالوجع والألم، وهكذا أبونا آدم ابتدأ يشقى، ويتعب مترجيًا أن تعطيه الأرض غلتها التي كان يحصل عليها قبل عصيانه الله بدون مشقة.
لقد فقد الإنسان البركة فأصابه الشقاء والتعب، ولكن هل الأتعاب والأوجاع هي عقوبة السقوط في الخطية أم العقوبة هي الموت؟ ألم يقل الله لأبينا آدم: "وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ" (تك2: 17)؟ فلماذا التعب والشقاء إذًا؟
يبارك الله من يصنع مرضاته، لكي يصاحبه النجاح والإثمار في عمله وتقل معاناته، ولهذا يُفلح ويُثمر في عمله، كقول الكتاب: "بَرَكَةُ الرَّبِّ هِيَ تُغْنِي، وَلاَ يَزِيدُ مَعَهَا تَعَبًا" (أم10: 22). أما من عصى الله فتفارقه البركات، ويصاحبه الشقاء والأوجاع، ولا يجني ثمار تعبه، كقول الكتاب: "زَرَعْتُمْ كَثِيرًا وَدَخَّلْتُمْ قَلِيلًا. تَأْكُلُونَ وَلَيْسَ إِلَى الشَّبَعِ. تَشْرَبُونَ وَلاَ تَرْوُونَ. تَكْتَسُونَ وَلاَ تَدْفَأُونَ. وَالآخِذُ أُجْرَةً يَأْخُذُ أُجْرَةً لِكِيسٍ مَنْقُوبٍ" (حج1: 6).
إن الأتعاب التي تصاحب حياة البشر في هذه الدنيا لها علاقة بما استجد على حياة الإنسان من طبيعة فاسدة بعد السقوط في الخطية، وهي لها فائدة ونفع عظيم في حفظه من الانحدار في طريق الشر. لقد استُعبد الإنسان بعد السقوط لذاته وشهواته، وأصبح التنعم وراحة الجسد لا يليق به، لأن الجسد أصبح يشتهي ضد الروح، ويقاومها، ولا يريد أن يخضع لله، كقول الكتاب: "لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ عَدَاوَةٌ ِللهِ، إِذْ لَيْسَ هُوَ خَاضِعًا لِنَامُوسِ اللهِ، لأَنَّهُ أَيْضًا لاَ يَسْتَطِيعُ" (رو8: 7).
كلما زادت فرص الجسد في التنعم كلما استغلها في تتميم نزواته وشهواته. لقد حذر الوحي الإلهي شعب إسرائيل عند دخولهم أرض كنعان الغنية بخيراتها من خطورة الرفاهية الزائدة، قائلًا لهم: "لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ آتٍ بِكَ إِلَى أَرْضٍ جَيِّدَةٍ. أَرْضِ أَنْهَارٍ مِنْ عُيُونٍ، وَغِمَارٍ تَنْبَعُ فِي الْبِقَاعِ وَالْجِبَالِ... أَرْضٌ لَيْسَ بِالْمَسْكَنَةِ تَأْكُلُ فِيهَا خُبْزًا، وَلاَ يُعْوِزُكَ فِيهَا شَيْءٌ... لِئَلاَّ إِذَا أَكَلْتَ وَشَبِعْتَ وَبَنَيْتَ بُيُوتًا جَيِّدَةً وَسَكَنْتَ... وَكَثُرَ كُلُّ مَا لَكَ، يَرْتَفِعُ قَلْبُكَ وَتَنْسَى الرَّبَّ إِلهَكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ" (تث8: 7- 14). وقد وصف القديس بطرس الرسول خطورة اهتمام البعدين عن الله في السعي وراء التنعم وتدليل الجسد، قائلًا: "آخِذِينَ أُجْرَةَ الإِثْمِ. الَّذِينَ يَحْسِبُونَ تَنَعُّمَ يَوْمٍ لَذَّةً. أَدْنَاسٌ وَعُيُوبٌ، يَتَنَعَّمُونَ فِي غُرُورِهِمْ صَانِعِينَ وَلاَئِمَ مَعَكُمْ" (2بط2: 13).
كشف الوحي الإلهي حب الله لشعبه إسرائيل، مع أنه قد سمح لهم بالأتعاب والمشقات بعد أن تركوه، ليعبدوا آلهة أخرى، وذلك أملًا في رجوعهم إليه. لقد شبههم الله بزوجة تترك رجلها، لتبحث عن محبين آخرين، قائلًا: "لِذلِكَ هأَنَذَا أُسَيِّجُ طَرِيقَكِ بِالشَّوْكِ، وَأَبْنِي حَائِطَهَا حَتَّى لاَ تَجِدَ مَسَالِكَهَا. فَتَتْبَعُ مُحِبِّيهَا وَلاَ تُدْرِكُهُمْ، وَتُفَتِّشُ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَجِدُهُمْ. فَتَقُولُ: أَذْهَبُ وَأَرْجعُ إِلَى رَجُلِي الأَوَّلِ، لأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ خَيْرٌ لِي مِنَ الآنَ" (هو2: 6- 7).
قانون العدل الإلهي يقضي بموت الخاطئ، كنتيجة لخطاياه، بغض النظر عن نوع الخطية التي ارتكبها، لأن الخطية تعدي على ناموس الله كله وشريعته، وذلك لأن الناموس الإلهي لا يمكن أن يتجزأ، كقول الكتاب: "لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِمًا فِي الْكُلِّ. لأَنَّ الَّذِي قَالَ: «لاَ تَزْنِ»، قَالَ أَيْضًا:«لاَ تَقْتُلْ». فَإِنْ لَمْ تَزْنِ وَلكِنْ قَتَلْتَ، فَقَدْ صِرْتَ مُتَعَدِّيًا النَّامُوسَ" (يع2: 10- 11).
← اقرأ هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت كتب أخرى لنفس المؤلف.
إن التعب والشقاء لا يمكن أن يكفي ليكون مجازاة عادلة عن الخطية، لأن مجازاة الخطية هي الموت، كقول الكتاب: "لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا" (رو6: 23). ولكن التعب والشقاء قد يكون تأديب للخاطئ، أو قد يكون لحكمة أخرى تؤدي في النهاية لخلاص الإنسان.
أعطى الله الإنسان التعب، كدواء لداء الخطية والكبرياء، وقد وصف الله السبي الذي سمح به لبني إسرائيل، بقوله: "لأَنِّي عَرَفْتُ الأَفْكَارَ الَّتِي أَنَا مُفْتَكِرٌ بِهَا عَنْكُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَفْكَارَ سَلاَمٍ لاَ شَرّ، لأُعْطِيَكُمْ آخِرَةً وَرَجَاءً" (إر29: 11).
قد يعترف الإنسان أحيانًا كثيرة بضعفه، وقد ينكر، لكنه في أغلب الأحيان يدرك مدى ضعفه بالحقيقة أثناء معاناته وشقاءه. لقد أخبرنا الكتاب المقدس عن أناس كثيرون تعلموا الاتضاع في وقت الشدة، وخير مثال لذلك تذلل داود النبي في وقت شدته أثناء مطاردة شاول له، وصراخه لله قائلًا: "أَصْغِ إِلَى صُرَاخِي، لأَنِّي قَدْ تَذَلَّلْتُ جِدًّا. نَجِّنِي مِنْ مُضْطَهِدِيَّ، لأَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنِّي" (مز142: 6). وهكذا اتضع يونان وهو في بطن الحوت، وأيوب في وقت ضيقه. لقد كان أبونا آدم وأمنا حواء في حاجة شديدة للاتضاع، لأنهما أكلا من الشجرة طمعًا في أن يصيرا مثل الله عارفين الخير والشر.
الله الحنون الذي سمح للأتعاب أن تجد لها مكانًا في حياة الإنسان اليومية خلط الشقاء بالتعزيات والبركات، كقول الكتاب: "فِي يَوْمِ الْخَيْرِ كُنْ بِخَيْرٍ، وَفِي يَوْمِ الشَّرِّ اعْتَبِرْ. إِنَّ اللهَ جَعَلَ هذَا مَعَ ذَاكَ، لِكَيْلاَ يَجِدَ الإِنْسَانُ شَيْئًا بَعْدَهُ" (جا7: 14). إن الله لا يترك الإنسان يعاني طيلة نهار حياته، لكنه يعزيه ويقويه ويهبه نعمه، ويبارك عمله، وهكذا يخفف الله عنه أتعابه. لقد أعلن الوحي الإلهي أنه راحة المتعبين قائلًا: "أَيُّهَا الْعِطَاشُ جَمِيعًا هَلُمُّوا إِلَى الْمِيَاهِ، وَالَّذِي لَيْسَ لَهُ فِضَّةٌ تَعَالَوْا اشْتَرُوا وَكُلُوا. هَلُمُّوا اشْتَرُوا بِلاَ فِضَّةٍ وَبِلاَ ثَمَنٍ خَمْرًا وَلَبَنًا" (إش55: 1). وقوله أيضًا: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ" (مت11: 28).
إن قانون الحياة التي نحياها يحتم على الزارع أن يكد ويتعب ليحصد، وكل من يزرع يتعب، ويشقى، كقول الكتاب: "الَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِالدُّمُوعِ يَحْصُدُونَ بِالابْتِهَاجِ" (مز126: 5). لقد أوجز سليمان الحكيم في بلاغة قيمة وأهمية التعب بقوله: "فِي كُلِّ تَعَبٍ مَنْفَعَةٌ، وَكَلاَمُ الشَّفَتَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَى الْفَقْرِ" (أم14: 23).
لقد تعلم معلمنا بولس الرسول حكمة الله من وراء ما تعرض له من أتعاب كثيرة أثناء خدمته المباركة؛ فأعلن قبوله وسروره بالضيقات، التي تؤهله للبركات، قائلًا: "لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ" (2كو12: 10).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-bishoy-fayek/beginning-of-time/toil.html
تقصير الرابط:
tak.la/96wtr54