"وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ" (تك3: 18).
إن قول الله لأبينا آدم عن الشوك والحسك، الذي تنبته الأرض له يعني ملازمة الألم له، ولكن لماذا الألم؟ وهل من حكمة وفائدة من ورائه؟ أم يعبر الألم فقط عن غضب إلهي تجاه الإنسان؟
فيما يلي نتأمل في الحكمة الإلهية من وراء ما يعانيه الإنسان في هذه الدنيا.
الألم معاناة، وغير مقبول الاستهانة بآلام البشر. لقد أشفق الله على أيوب الصديق المتألم، ووبخّ أصدقاءه الذين استخفوا بآلامه، وقد كشف الله في رقة عن تقديره لمشاعر البشر في سفر إشعياء، بقوله: "فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ، وَمَلاَكُ حَضْرَتِهِ خَلَّصَهُمْ. بِمَحَبَّتِهِ وَرَأْفَتِهِ هُوَ فَكَّهُمْ وَرَفَعَهُمْ وَحَمَلَهُمْ كُلَّ الأَيَّامِ الْقَدِيمَةِ" (إش63: 9). وأظهر الكتاب مشاعر الرب يسوع الحانية نحو لعازر، بقوله: "بَكَى يَسُوعُ. فَقَالَ الْيَهُودُ: انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ يُحِبُّهُ!" (يو11: 35: 36).
يشفق الله على الإنسان، ويتدخل لإنهاء معاناته وشقائه، كقوله: "... فَإِنِّي أَنَا الرَّبُّ شَافِيكَ" (خر15: 26). أو برفع الظلم عنه، كما فعل مع شعبه إسرائيل الذي خلصه من قساوة فرعون، كقوله: "وَالآنَ هُوَذَا صُرَاخُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَتَى إِلَيَّ، وَرَأَيْتُ أَيْضًا الضِّيقَةَ الَّتِي يُضَايِقُهُمْ بِهَا الْمِصْرِيُّونَ" (خر3: 9). أو قد ينهي الله معاناة الإنسان على الأرض عندما ينقله إلى السماء، ليستريح من أتعابه، كقول جبرائيل الملاك لدانيال النبي العظيم: "أَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ إِلَى النِّهَايَةِ فتَسْتَرِيحَ، وتَقُومَ لِقُرعَتِكَ فِي نِهَايَةِ الأَيَّامِ" (دا12: 13).
تنبت الأرض ما يزرعه الإنسان فيها سواء كان جيدًا أو سيئًا. أن الأرض التي تزرع ليست سطح وقشرة الكرة الأرضية فقط. لقد أخبرنا الكتاب عن أرض أخرى تزرع، وهي قلب وعقل الإنسان. وقد حذرنا معلمنا بولس الرسول من زراعة قلوبنا بما هو رديء لئلا نحصد شوكًا وحسكًا، فتكون النهاية الحريق، كقوله: "... فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا. لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً" (غل6: 7- 8).
شبه معلمنا بولس الرسول الرافضين الرب يسوع المرتدين عنه بأرض أخرجت شوكًا وحسكًا، فلذلك نهايتهم هي الهلاك والحريق، قائلًا: "لأَنَّ أَرْضًا قَدْ شَرِبَتِ الْمَطَرَ الآتِيَ عَلَيْهَا مِرَارًا كَثِيرَةً، وَأَنْتَجَتْ عُشْبًا صَالِحًا لِلَّذِينَ فُلِحَتْ مِنْ أَجْلِهِمْ، تَنَالُ بَرَكَةً مِنَ اللهِ. وَلكِنْ إِنْ أَخْرَجَتْ شَوْكًا وَحَسَكًا، فَهِيَ مَرْفُوضَةٌ وَقَرِيبَةٌ مِنَ اللَّعْنَةِ، الَّتِي نِهَايَتُهَا لِلْحَرِيقِ" (عب6: 7- 8).
لقد فسدت الطبيعة نتيجة دخول الشر للعالم، وتَلازَّم الألم مع الفساد والشر الذي ساد الناس، وسيظل الألم يعمل في جسد البشرية، ما دام الشر منتشرًا في هذا العالم، كقول الكتاب: "لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ. فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى الآنَ" (رو8: 21- 22).
← اقرأ هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت كتب أخرى لنفس المؤلف.
لا يمكن للإنسان أن يدرك تمامًا حكمة الله من وراء ما يسمح به من ألم لبني البشر، ذلك لأن حكمته عالية جدًا كعلو السماء عن الأرض، كوصف الكتاب القائل: "لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ، هكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ" (إش55: 9). ولكننا يمكننا أن نلمس في حياتنا بعض من مظاهر هذه الحكمة بصورة عملية واضحة. فيما يلي بعض النقاط التي تشهد لهذه الحكمة:
أعطى الله للإنسان إمكانية الاستشعار بالمرض من خلال الألم، فكل مرض يصاحبه نوع من الألم، ويعتبر الأطباء الإحساس بالألم منحة إلهية، لأنه لولا الألم ما اكتُشف المرض، وهكذا أيضًا تصاحب كل خطية ألم يتناسب مع تلك الخطية، كقول الكتاب: "شَوْكٌ وَفُخُوخٌ فِي طَرِيقِ الْمُلْتَوِي. مَنْ يَحْفَظُ نَفْسَهُ يَبْتَعِدُ عَنْهَا" (أم22: 5). إن الطبيب الحكيم يهتم بالتخلص من أسباب الألم، أكثر من إعطاء المريض مسكنات الألم ليخلص المريض منه فقط، وهكذا أيضًا يجب الاهتمام بالتوبة لتجنب آلام الخطية والشر.
أرسل معلمنا بولس الرسول رسالة لأهل مدينة كورنثوس، يشهد فيها عن النتائج الإيجابية العظيمة الناتجة عن الآلام والأحزان، التي أصابت خاطئ مدينة كورنثوس ومعه شعب المدينة، بعد حرمانه من شركة الكنيسة، قائلًا: "فَإِنَّهُ هُوَذَا حُزْنُكُمْ هذَا عَيْنُهُ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ، كَمْ أَنْشَأَ فِيكُمْ: مِنَ الاجْتِهَادِ، بَلْ مِنَ الاحْتِجَاجِ، بَلْ مِنَ الْغَيْظِ، بَلْ مِنَ الْخَوْفِ، بَلْ مِنَ الشَّوْقِ، بَلْ مِنَ الْغَيْرَةِ، بَلْ مِنَ الانْتِقَامِ. فِي كُلِّ شَيْءٍ أَظْهَرْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أَنَّكُمْ أَبْرِيَاءُ فِي هذَا الأَمْرِ" (2كو7: 11).
يسمح الله أحيانًا ببعض العوائق والصعوبات، التي تسبب ألم إذا حاول الإنسان تخطيها. إن الألم أحيانًا يصبح ضريبة باهظة، يجب أن يسددها من يشتاق لفعل الشر.
عندما أهمل بني إسرائيل إلههم شبههم الله بزوجة خائنة تبحث عن محبين لها، لكنه أظهر حبه نحو أمة إسرائيل بوضع العوائق، لمنعهم عن التشبه بعباد الأوثان المحيطين بهم، كقوله: "لِذلِكَ هأَنَذَا أُسَيِّجُ طَرِيقَكِ بِالشَّوْكِ، وَأَبْنِي حَائِطَهَا حَتَّى لاَ تَجِدَ مَسَالِكَهَا. فَتَتْبَعُ مُحِبِّيهَا وَلاَ تُدْرِكُهُمْ، وَتُفَتِّشُ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَجِدُهُمْ. فَتَقُولُ: أَذْهَبُ وَأَرْجعُ إِلَى رَجُلِي الأَوَّلِ، لأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ خَيْرٌ لِي مِنَ الآنَ" (هو2: 6- 7).
تَمَسُك الإنسان باختيار معين أو معتقد ما، مهما عانى من أجله يعبر عن قيمة وعظمة هذا الاختيار أو المعتقد. إن الأشرار يتألمون لأجل خطاياهم وشهواتهم، وكم من مدمن للمخدرات قد أضاع حياته أثناء تعاطيه لتلك السموم. لقد شهد تلاميذ الرب لإيمانهم الثمين من خلال معاناتهم وآلامهم، كقول الكتاب: "وَقَبْلَ هذَا كُلِّهِ يُلْقُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، وَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَامِعٍ وَسُجُونٍ، وَتُسَاقُونَ أَمَامَ مُلُوكٍ وَوُلاَةٍ لأَجْلِ اسْمِي. فَيَؤُولُ ذلِكَ لَكُمْ شَهَادَةً" (لو21: 12- 13).
لقد علمنا معلمنا بطرس الرسول تفضيل اختيار الألم لأجل صنع الخير، على التألم والاحتراق بنتائج الشرور في هذا العالم، قائلًا: "لأَنَّ تَأَلُّمَكُمْ إِنْ شَاءَتْ مَشِيئَةُ اللهِ، وَأَنْتُمْ صَانِعُونَ خَيْرًا، أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَنْتُمْ صَانِعُونَ شَرًّا" (1بط3: 17).
يتطلع البشر للحياة الكاملة المملوءة بالسعادة، ولكن الألم في هذه الدنيا يجعل الناس يتطلعون، وينشدون عالم آخر وحياة أخرى. لقد تطلع الآباء القديسون منذ القديم لحياة أخرى، لأنهم أدركوا أن هذا العالم المملوء بالشوك والحسك ليس هو الأفضل، ولهذا تطلعوا لوطن أفضل ولمدينة كاملة فاضلة أعدها لهم الله، كقوله: "وَلكِنِ الآنَ يَبْتَغُونَ وَطَنًا أَفْضَلَ، أَيْ سَمَاوِيًّا. لِذلِكَ لاَ يَسْتَحِي بِهِمِ اللهُ أَنْ يُدْعَى إِلهَهُمْ، لأَنَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ مَدِينَةً" (عب11: 16).
إنَّ الإنسان قد يتألم، ويضحي في فرح، كالأم التي تفرح بمعاناتها لأجل طفلها، ليس ذلك فقط، بل قد يتألم المرء، أو يفقد حياته برضا لأجل وطنه، أو لأجل الواجب كما هو حادث بالنسبة للأطباء الذين تنتقل إليهم العدوى من مرضاهم، أو كرجال الإطفاء الذين قد يفقدون حياتهم، لأجل إنقاذ من هم في كارثة. لقد ضرب لنا الرب يسوع أعظم مثال لذلك، كقول الكتاب: "... الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ، احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ" (عب12: 2).
لقد فسر الرب يسوع في مثل الزارع ما قصده بالأرض، وهي قلب الإنسان، وإن كانت الأرض المادية قد تنبت شوكًا وحسكًا، فقلب الإنسان قد ينبت له شرورًا وتجاديف تؤلمه، وتؤلم من حوله، كقول الكتاب: "لأَنْ مِنَ الْقَلْب تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ: قَتْلٌ، زِنىً، فِسْقٌ، سِرْقَةٌ، شَهَادَةُ زُورٍ، تَجْدِيفٌ" (مت15: 19). لذلك يجب الحذر لئلا نتألم ومعنا من حولنا، بشرِ أفعالنا.
أننا نحتمل آلام هذا الزمان بصبر، ونجتهد في حفظ أرض قلوبنا نقية من الأشواك، صالحة للإثمار، على رجاء وأمل الخلاص من أشواك وآلام هذا العالم، كقول الكتاب: "... إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ" (رو8: 17).
لقد وعد الرب المخلص بحمله الشوك عنا، وقد حمله فعلًا على رأسه كإكليل، بعد أن ضفره له الإنسان على الصليب، ولهذا ما نتحمله نحن لأجل حبه هو شركة آلام معه. لقد وعد الرب أيضًا أن يهجم على الشوك أي الشر ليخلصنا منه إلى الأبد، ذلك حين يُلقي العدو الشرير ومعه أعوانه في البحيرة المتقدة بالنار والكبريت، كقوله: "لَيْسَ لِي غَيْظٌ. لَيْتَ عَلَيَّ الشَّوْكَ وَالْحَسَكَ فِي الْقِتَالِ فَأَهْجُمَ عَلَيْهَا وَأَحْرِقَهَا مَعًا" (إش27: 4).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-bishoy-fayek/beginning-of-time/thorns.html
تقصير الرابط:
tak.la/6ddyny7