"فَنَادَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَقَالَ لَهُ: أَيْنَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ. فَقَالَ: مَنْ أَعْلَمَكَ أَنَّكَ عُرْيَانٌ؟ هَلْ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ أَنْ لاَ تَأْكُلَ مِنْهَا؟" (تك3: 9- 11).
حكم الله بالموت على من يخالف أمره، ويأكل من شجرة معرفة الخير والشر. ولكن أبونا آدم وأمنا حواء تعدوا أمر الله ووصيته، وأكلوا من ثمرة الشجرة المحرمة، ومع هذا ذهب الله إليهما وهما مختبئين بين الأشجار الكثيفة المورقة ليناقشهما في أسباب عصيانهما ومخالفتهما. لم يستطيعا أن يتبررا أمام الله من التهم الموجهة إليهما، لأن خطأهما قد أثبت عليهما أمام عدالة وقداسة الله.
ومع هذا لم يُهلك الله أبوينا آدم وحواء على الفور، بل عاش أبونا آدم بعد هذه الحادثة مئات السنوات، كقول الكتاب: "وَكَانَتْ أَيَّامُ آدَمَ بَعْدَ مَا وَلَدَ شِيثًا ثَمَانِيَ مِئَةِ سَنَةٍ، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. فَكَانَتْ كُلُّ أَيَّامِ آدَمَ الَّتِي عَاشَهَا تِسْعَ مِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً، وَمَاتَ" (تك5: 4- 5).
تُرى لماذا لم يصدر الله عليهما حكمًا نهائيًا فوريًا باللعن، كما أصدر على الحية من قبل، بقوله لها: "فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْحَيَّةِ: لأَنَّكِ فَعَلْتِ هذَا، مَلْعُونَةٌ أَنْتِ مِنْ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ وَمِنْ جَمِيعِ وُحُوشِ الْبَرِّيَّةِ. عَلَى بَطْنِكِ تَسْعَيْنَ وَتُرَابًا تَأْكُلِينَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكِ" (تك3: 14)؟
في التأمل التالي نبين حب الله وكثرة رأفاته لبني البشر، ولماذا يطيل الله أناته على الخطاة؟!
إن الله طويل الأناة يغفر كثيرًا، ولا يريد أن يُهلك أحد، ومع إننا لا نعرف كم من الفرص أعطاها الله لإبليس الحية القديمة، كي يتوب، لكننا نثق أنه تأنى عليه كثيرًا، لأن الله كثير الرأفة وطويل الأناة، كقول الكتاب: "أَمَّا هُوَ فَرَؤُوفٌ، يَغْفِرُ الإِثْمَ وَلاَ يُهْلِكُ. وَكَثِيرًا مَا رَدَّ غَضَبَهُ، وَلَمْ يُشْعِلْ كُلَّ سَخَطِهِ. ذَكَرَ أَنَّهُمْ بَشَرٌ. رِيحٌ تَذْهَبُ وَلاَ تَعُودُ" (مز78: 38- 39).
إن طول أناة إلهنا صفة أساسية من صفاته، وهي تعبر عن عمق محبته وشوقه لتوبة وخلاص كل أحد، كقوله: "أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟" (رو2: 4).
إن الله يحسن كثيرًا للخطاة بطول أناته وغفرانه، وهذا يعني أن الله ليس كالبشر الأشرار، الذين يغضبون من بعضهم البعض على أتفه الأسباب، وينتقمون لأنفسهم بقساوة، ثم يتصيدون لبعضهم الأخطاء.
إنه لأجل كثرة صلاحه يكشف للخطاة خطاياهم، يبكتهم على شرورهم، يرشدهم، ويعلمهم، يُتَوِّبهم، يهديهم للطريق المستقيم، ولا يقف لهم بالمرصاد متصيدًا لأخطائه ليهلكهم، كقول الكتاب: "إِنْ كُنْتَ تُرَاقِبُ الآثَامَ يَا رَبُّ، يَا سَيِّدُ، فَمَنْ يَقِفُ؟ لأَنَّ عِنْدَكَ الْمَغْفِرَةَ. لِكَيْ يُخَافَ مِنْكَ" (مز130: 3- 4).
إن الإنسان ضعيف، ولهذا وصفه الكتاب بالعشب، قائلًا: "الإِنْسَانُ مِثْلُ الْعُشْبِ أَيَّامُهُ. كَزَهَرِ الْحَقْلِ كَذلِكَ يُزْهِرُ" (مز103: 15). إن العشب لا بُد له أن يذبل سريعًا، إذا حمت الشمس عليه، لقد علمنا الكتاب المقدس أن التجارب الشديدة كفيلة أن تُسقط الإنسان، مهما كانت قوته الذاتية، ولذا يُقَصِّر الله أزمنة وأوقات التجارب الشديدة التي تأتي على الإنسان، كقول الكتاب: "وَلَوْ لَمْ يُقَصِّرِ الرَّبُّ تِلْكَ الأَيَّامَ، لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلكِنْ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ، قَصَّرَ الأَيَّامَ" (مر13: 20).
← اقرأ هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت كتب أخرى لنفس المؤلف.
إن الله العادل الحنون لا يُحَمِّل الإنسان فوق طاقته، لذا فهو يعامل كل بشر حسب إمكاناته، ولا يطالب أحدًا بما فوق طاقته، كقول الكتاب: "كَمَا يَتَرَأَفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ يَتَرَأَفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ. لأَنَّهُ يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا. يَذْكُرُ أَنَّنَا تُرَابٌ نَحْنُ" (مز103: 13- 14).
ينظر الله للإنسان بعين الرجاء، حتى وهو في حالة الخطية، وعندما يرى الله بصيص أمل في توبة ورجوع أي إنسان يصبر الله عليه، حتى يأتي بالثمار المرجوة، كقول الكتاب: "هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: كَمَا أَنَّ السُّلاَفَ يُوجَدُ فِي الْعُنْقُودِ، فَيَقُولُ قَائِلٌ: لاَ تُهْلِكْهُ لأَنَّ فِيهِ بَرَكَةً. هكَذَا أَعْمَلُ لأَجْلِ عَبِيدِي حَتَّى لاَ أُهْلِكَ الْكُلَّ" (إش65: 8). وأيضًا قوله عن حب الرب يسوع المسيح للخطاة وصبره عليهم: "قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ، حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ" (مت12: 20).
يطيل الله أناته على البشر أجمعين. إنه يصبر على الضعفاء منتظرًا توبتهم، ويصبر على الأشرار المعاندين المتعجرفين أيضًا، حتى يستنفذوا كل فرص التوبة، ولكنه حين ينتقم منهم يعرف الجميع مدى ضعفهم أمام قوة الله وعظمته.
إن الله يتمجد حين يرحم التائبين، ويقبلهم، ويتمجد أيضًا في احتماله للمتعجرفين، ثم في مجازاته لهم. لقد أظهر الله طول أناته على فرعون، ثم أظهر قوته وجبروته في هلاكه وغرقه هو وجنوده في البحر الأحمر، وهكذا سيتمجد الله، حينما يلقي إبليس ومن معه من الأشرار في البحيرة المتقدة بالنار والكبريت.
لقد أطلق معلمنا بولس الرسول لقب آنية الرحمة على فريق التائبين، الذين احتملهم الله حتى تابوا، وعلى الفجار المتعجرفين أطلق الرب عليهم لقب آنية هوان أو هلاك، كقوله: "فَمَاذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ وَيُبَيِّنَ قُوَّتَهُ، احْتَمَلَ بِأَنَاةٍ كَثِيرَةٍ آنِيَةَ غَضَبٍ مُهَيَّأَةً لِلْهَلاَكِ. وَلِكَيْ يُبَيِّنَ غِنَى مَجْدِهِ عَلَى آنِيَةِ رَحْمَةٍ قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا لِلْمَجْدِ" (رو9: 22- 23).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-bishoy-fayek/beginning-of-time/punishment.html
تقصير الرابط:
tak.la/pmrkk47