"وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقًا، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ. وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكْلِ، وَشَجَرَةَ الْحَيَاةِ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَشَجَرَةَ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ" (تك2: 8- 9).
يتخيل البعض أن سبب سعادة الإنسان الأول في الفردوس هو الاسترخاء التام، وإشباع رغبات الجسد ومتعه الحسية، ولكن من يتبنى هذا الاعتقاد يتناسى أن تلك الأمور هي مطلب الجسد المادي فقط، ولكن الإنسان ليس جسدًا فقط، وهنا يأتي تساؤل، هل تتحقق السعادة والفرح على المستوى الروحي والنفسي بالاسترخاء والكسل وحصول الجسد على مشتهياته؟ ثم إن كانت شهوات الجسد لا تحقق سعادة الإنسان، فما هو سر الفرح في جنة عدن؟
في النقاط التالية نتأمل في أسباب الفرح والسعادة، التي ملأت قلوب سكان جنة عدن:
يذكر لنا الكتاب المقدس التعاسة التي صاحبت سقوط آدم وحواء بالرغم من حصولهم على ما أرادوا من شهوة. فقد انتابهم الخوف والخزي وصاروا حبيسين، وكأنهما مقيدان وسط أشجار الجنة. لقد أكد الرب للمرأة السامرية أن إشباع شهوات ورغبات الجسد لا تحقق سعادة الإنسان المنشودة، قائلًا: "أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهاَ: كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضًا" (يو4: 13).
إن روح الإنسان -وليس جسده- لها الدور الفاعل والأساسي في سعادته أو تعاسته. فقد تتمكن روح الإنسان التي تتمتع بنعمة السلام والتعزية والقوة أن تحتمل أتعاب الجسد، ولكن العكس غير صحيح، كقوله: "رُوحُ الإِنْسَانِ تَحْتَمِلُ مَرَضَهُ، أَمَّا الرُّوحُ الْمَكْسُورَةُ فَمَنْ يَحْمِلُهَا؟" (أم18: 14).
لا تتحقق سعادة الإنسان الداخلي (روح الإنسان) بالراحة، لأن روح الإنسان خُلقت على شبه الله في الحب والبذل وحب المعرفة والطموح وطلب الصلاح، وهي لا تستريح، عندما تتعطل هذه الإمكانات التي وهبها الله لها. إن السعادة تتحقق، عندما تثمر روح الإنسان بالمحبة والفرح والسلام وطول الأناة وغيرها.. لقد خص الوحي الإلهي أبناء الله بالثمار الروحية حتى في زمن شيخوختهم، كقوله: "أَيْضًا يُثْمِرُونَ فِي الشَّيْبَةِ. يَكُونُونَ دِسَامًا وَخُضْرًا" (مز92: 14).
التعب الجسماني ضرورة لصحة الجسد، لأنه نوع من الرياضة الجسدية، وقد خلق الله الليل لراحة الإنسان، ليزيل عنه أتعاب العمل؛ فيتجدد نشاطه مرة أخرى.
إن العمل والتعب هو الأداة الأولى للتعبير عن الحب، وعمومًا تسعد النفس بالبذل والعطاء والتعب من أجل أحبائها، لأن ذلك يعطي معنى وهدف لحياة الإنسان ووجوده، كقول الكتاب: "فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ وَتَعْضُدُونَ الضُّعَفَاءَ، مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ أَنَّهُ قَالَ: مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ" (أع20: 35).
يخطئ من يتخيل أبونا آدم وامرأته يحيون في جنة عدن في وخم طيلة النهار، وأنهم لا يقومون من أماكن راحتهم، إلا لجمع الثمار، كلما شعروا بالجوع. لقد عين الله مهام وأعمال نافعة يعملها أبونا آدم وامرأته في جنة عدن، لأن الله خلق كل إنسان لأعمال صالحة، كقوله: "لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا" (أف2: 10).
← اقرأ هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت كتب أخرى لنفس المؤلف.
إن سبب حالة الفرح التي كان يحياها الإنسان الأول في جنة عدن هي القداسة والطهارة والمحبة، التي كان يتمتع بها عندما خلقه الله على صورته كشبهه (صورة مجد الله). لقد سلك أبونا آدم وفقًا لما لهذه الطبيعة السامية، التي كانت هي المحرك والدافع لسلوكه في الفردوس. في السطور القادمة نتعرف على الحياة اليومية للإنسان الأول في الفردوس.
1. العشرة والتواصل مع الله
كان الله هو مصدر حياة وسعادة أبونا آدم. لقد اهتم به الله، وكثيرًا ما كان يأتي إليه ليعلمه، ويرشده (كما ذكرنا في تأمل سابق). لقد وَجَدَ أبونا آدم في الله الصديق والأب والحبيب، ولهذا كان يسعد بحضور الله إليه، وينتظره ويشتاق لحضوره، وهكذا ابتدأ الإنسان يفهم معنى وأهمية الصلاة، وقد تعلم آدم أيضًا أن الله يستجيب لطلباته، ومن أبرز الأمثلة على ذلك استجابة الله له بخلقة حواء، التي اشتاق لوجودها معه بحسب الكتاب القائل: "... وَأَمَّا لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِدْ مُعِينًا نَظِيرَهُ. فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا" (تك2: 20- 21). لقد تعلم أبونا آدم الصلاة في الفردوس من خلال عشرته مع الله. أما الصوم فقد أعطاه الله له كوصية خاصة بعدم الأكل من شجرة معرفة الخير والشر.
2. الدراسة والتأمل
خلق الله الإنسان مرهف الحس يتأمل، ويسعد بجمال ما يحيط به من الخليقة مما في السماء أو الأرض. لقد أعطاه الله أيضًا مهمة تأمل ودراسة صفات الحيوانات، وتسمية كل منها باسم يتناسب مع صفاتها، كقول الكتاب: "وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ السَّمَاءِ، فَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا، وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا" (تك2: 19).
3. الاهتمام بجنة عدن، والحفاظ عليها.
أمر الله آدم بالعمل في جنة عدن، كقوله: "وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا" (تك2: 15). لقد احتاج منه هذا العمل تخصيص وقت كاف لإتمامه كل يوم.
4. الاهتمام بمتطلبات المعيشة اليومية الخاصة به وبزوجته.
لقد استلزم منه هذا العمل رعاية وإدارة الخليقة المحيطة به من حيوان أو نبات، حتى يمكنه استغلالها للفائدة والخير، ليتمم أمر الله القائل: "... املأوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ" (تك1: 28).
5. أعمال الخدمة من خير وصلاح وحب يقدمه لزوجته حواء أو للخليقة المحيطة به.
إن ما يقوم به الإنسان في العصر الحديث من مخترعات مفيدة في مجالات الحياة المختلفة لراحته وراحة من حوله، قد ابتدأ العمل به منذ بداية وجود الإنسان الأول آدم وحواء على الأرض، ومن الأدلة على ذلك ما قام به أبوينا من صنع أول مآزر من ورق التين، ليسترا أنفسهما، كقول الكتاب: "فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ" (تك3: 7).
لم يحيا أبونا آدم وامرأته حواء في الفردوس من أجل راحة الجسد وتنعمه، لكن نعيم الفردوس الذي تمتعا به كان مرجعه الحياة المقدسة، التي كان يحياها أبوينا الأولين والأعمال الصالحة، التي أعطت حياتهما معنى ومغزى سامٍ.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-bishoy-fayek/beginning-of-time/paradise.html
تقصير الرابط:
tak.la/7yv7jpf