"فَقَالَ قَايِينُ لِلرَّبِّ: ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَلَ" (تك4: 13). "يَجْلِسُ وَحْدَهُ وَيَسْكُتُ، لأَنَّهُ قَدْ وَضَعَهُ عَلَيْهِ. يَجْعَلُ فِي التُّرَابِ فَمَهُ لَعَلَّهُ يُوجَدُ رَجَاءٌ" (مرا3: 28- 29).
تذمر قايين على الله لأنه عاقبه، وثار في وجهه، قائلًا له: إن ذنبي أعظم من أن يحتمل، أي أن الذنب والعقوبة التي فرضها الله عليه كبيرة، وهو لن يخضع لله، ولن يحتمل تلك العقوبة، وبناءً على ذلك قرر قايين أن يخاصم الله وأبويه أيضًا، ويذهب بعيدًا عن مكان سكنى عائلته، وهكذا فقد قايين الحب والدفء العائلي، وصار وحيدًا تائهًا بلا صدر يحتضنه أو ظهر يحميه. ولكن يتبادر للذهن تساؤل وهو:
ما هو المسلك الحسن الذي كان من المفترض أن يسلكه قايين، بعد عقاب الله له، حتى لا يتعرض للهلاك والضياع؟
يجازي الله العادل الصديقين على كل سلوك أو تصرف صالح، وأيضًا الأشرار على كل شر، كقوله: "ثَمَرُ الصِّدِّيقِ شَجَرَةُ حَيَاةٍ، وَرَابحُ النُّفُوسِ حَكِيمٌ. هُوَذَا الصِّدِّيقُ يُجَازَى فِي الأَرْضِ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الشِّرِّيرُ وَالْخَاطِئُ!" (أم11: 30- 31). إن الإنسان العاقل يدرك أن كل سلوك أو عمل يعمله له تبعات ونتائج، وهذه التبعات لا بُد أن تلاحقه، وتدركه، كقول الكتاب: "لَمْ يَرْضَوْا مَشُورَتِي. رَذَلُوا كُلَّ تَوْبِيخِي. فَلِذلِكَ يَأْكُلُونَ مِنْ ثَمَرِ طَرِيقِهِمْ، وَيَشْبَعُونَ مِنْ مُؤَامَرَاتِهِمْ" (أم1: 30- 31).
التذمرَ على تأديبات الله يعني أن الإنسان لم يدرك بعد شر خطاياه، أو أنه يستخف بخطاياه وأفعاله السيئة، كما فعل قايين. لقد أعلن له الله بوضوح شر خطيئته، لكنه لم يشعر بجسامة شره. إن التأديب والعقاب مفيدٌ جدًا للمعاندين الغير المعترفين بخطاياهم أمثال قايين، فقد يدرك الخاطئ حينما يعاقب مدى خطورة خطأه وشره. وقد تعجب إرميا النبي، وهو يرثي حال شعبه من تذمرهم على آلام السبي، التي أصابتهم بسبب خطاياهم، قائلًا: "لِمَاذَا يَشْتَكِي الإِنْسَانُ الْحَيُّ، الرَّجُلُ مِنْ قِصَاصِ خَطَايَاهُ؟ لِنَفْحَصْ طُرُقَنَا وَنَمْتَحِنْهَا وَنَرْجعْ إِلَى الرَّبِّ. لِنَرْفَعْ قُلُوبَنَا وَأَيْدِيَنَا إِلَى اللهِ فِي السَّمَاوَاتِ: نَحْنُ أَذْنَبْنَا وَعَصَيْنَا. أَنْتَ لَمْ تَغْفِرْ" (مرا 3: 39- 42).
يشعر الإنسان المتضع بخطأه بسهولة، ولهذا يقبل القصاص والتأديب، ولا يتذمر على الله أبدًا. لقد تضرع عزرا الكاتب لله طالبًا مراحم الله، ومعترفًا باستحقاق شعبه للسبي على يد ملك بابل، قائلًا: "وَبَعْدَ كُلِّ مَا جَاءَ عَلَيْنَا لأَجْلِ أَعْمَالِنَا الرَّدِيئَةِ وَآثَامِنَا الْعَظِيمَةِ، لأَنَّكَ قَدْ جَازَيْتَنَا يَا إِلهَنَا أَقَلَّ مِنْ آثَامِنَا وَأَعْطَيْتَنَا نَجَاةً كَهذِهِ" (عز9: 13). وبهذا المفهوم تغنىّ داود النبي في المزمور، قائلًا: "لَمْ يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا، وَلَمْ يُجَازِنَا حَسَبَ آثامِنَا" (مز103: 10).
يقبل الابن تأديب أبيه، لأنه يشعر بمقدار حب أبيه له. إنه يثق أن تأديب أبيه له يحمل إخلاصًا، وأنه يؤدبه لمنفعته الشخصية، ويثق أنَّ أباه سيرفع عنه التأديب إذا كفّ عن الخطأ. لقد أكد الكتاب المقدس قبول الأبناء لتأديب آبائهم بحسب المفهوم السابق، بقوله: "وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِلاَ تَأْدِيبٍ، قَدْ صَارَ الْجَمِيعُ شُرَكَاءَ فِيهِ، فَأَنْتُمْ نُغُولٌ لاَ بَنُونَ" (عب 12: 8). وأكدّ إرميا النبي أيضًا هذا الإيمان في سفر المراثي، بقوله: "لأَنَّ السَّيِّدَ لاَ يَرْفُضُ إِلَى الأَبَدِ. فَإِنَّهُ وَلَوْ أَحْزَنَ يَرْحَمُ حَسَبَ كَثْرَةِ مَرَاحِمِهِ. لأَنَّهُ لاَ يُذِلُّ مِنْ قَلْبِهِ، وَلاَ يُحْزِنُ بَنِي الإِنْسَانِ" (مرا 3: 31- 33).
← اقرأ هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت كتب أخرى لنفس المؤلف.
لقد رتبت الكنيسة الملهمة بالروح القدس، أن يُتلى في طقس جمعة الصلبوت جزء من سفر مراثي إرميا، الذي يوضح فيه إرميا النبي ضرورة احتمال المخطئ عقاب وتأديب خطاياه، ومع أن الرب يسوع قدوس، ولم يخطأ، فقد تحمل في صبر تأديب خطايانا، كقول إشعياء النبي: "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (إش53: 5).
طلب مراحم الله وتوقعها بثقة وإيمان، وفي صبر أمر ضروري لمن يتوقعون من الله غفران خطاياهم وعفوه عنهم، لأن ذلك يؤكد إيمانهم وثقتهم بالله، ويجعل التأديب يأتي بثماره المرجوة سريعًا، كقول إرميا النبي في سفر المراثي: "عَيْنِي تَسْكُبُ وَلاَ تَكُفُّ بِلاَ انْقِطَاعٍ حَتَّى يُشْرِفَ وَيَنْظُرَ الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ" (مرا3: 49- 50). لقد رأى أبناء الله المؤمنين به (عن بعد) استجابة الله لهم وقت الضيق، وتيقنوا من عفوه عنهم. أنهم أبصروا بعين الإيمان هذه الاستجابة، وهم بعد في وسط الضيق. وقد تغنى يونان النبي برحمة الله، وهو في بطن الحوت، قبل أن يقذفه الحوت للشاطئ، فقال: "نَزَلْتُ إِلَى أَسَافِلِ الْجِبَالِ. مَغَالِيقُ الأَرْضِ عَلَيَّ إِلَى الأَبَدِ. ثُمَّ أَصْعَدْتَ مِنَ الْوَهْدَةِ حَيَاتِي أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهِي. حِينَ أَعْيَتْ فِيَّ نَفْسِي ذَكَرْتُ الرَّبَّ، فَجَاءَتْ إِلَيْكَ صَلاَتِي إِلَى هَيْكَلِ قُدْسِكَ" (يون2: 6- 7). أما إرميا النبي العظيم فقد تغنى برحمة الله وفرجه، بينما كان هو وشعبه واقعين تحت ثقل التأديب، فنطق قائلًا: "دَنَوْتَ يَوْمَ دَعَوْتُكَ. قُلْتَ: «لاَ تَخَفْ!». خَاصَمْتَ يَا سَيِّدُ خُصُومَاتِ نَفْسِي. فَكَكْتَ حَيَاتِي" (مرا 3: 57- 58).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-bishoy-fayek/beginning-of-time/mercy.html
تقصير الرابط:
tak.la/p79vg5p