"وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: هُوَذَا الإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفًا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضًا وَيَأْكُلُ وَيَحْيَا إِلَى الأَبَدِ" (تك 3: 22).
هل صار الإنسان مثل الله فعلًا بعد الأكل من شجرة معرفة الخير والشر؟ وماذا يقصد الوحي الإلهي بقوله هذا؟
بالطبع لا يمكن أن يصير الإنسان مثل الله، لأن ذلك ليس منطقيًا، ولا يقبله العقل الواعي. إن واقع حال آدم بعد السقوط يشهد بانحطاط شأنه. إن المقصود من قول الوحي الإلهي هو إظهار كبرياء الإنسان وجرأته من وراء أكله من الشجرة.
في النقاط التالية من هذا التأمل نشرح ذلك بالتفصيل:
قدم الله حكمته الإلهية في صورة وصاياه الإلهية، ليعمل بها الإنسان، وبذلك يمكنه أن يفوز بالحياة الأبدية، كقول الكتاب: "مَخَافَةُ الرَّبِّ رَأْسُ الْمَعْرِفَةِ، أَمَّا الْجَاهِلُونَ فَيَحْتَقِرُونَ الْحِكْمَةَ وَالأَدَبَ" (أم1: 7). إن مخافة الرب تعني اعتبار هيبة وعظمة وحكمة الرب، وهذا لا يكون إلا بالخضوع لوصيته أي طاعته.
لقد استهانت أمنا حواء ومعها أبونا آدم بالحكمة الإلهية، عندما أكلا من الشجرة المحرمة، لأنهما اقتنعا، وصدقا قول الحية، بل أكثر من هذا انتفخا ذهنهما البشري، وأرادا أن يصيرا مثل الله عارفين الخير والشر. لقد قبلا الحكمة الشيطانية، واحتقرا الحكمة الإلهية. إن من يرفض الوصية الإلهية يسلك مقاومًا وضدًا لله، كقول الكتاب: "مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ" (لو11: 23).
لقد أكل الإنسان من الشجرة المحرمة، لكي يصير مثل الله، وهكذا تمثل بإبليس الذي أراد أيضًا أن يصير مثل الله، كقول الكتاب: "أَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِيِّ" (إش14: 14).
إن من يستجيب، ويخضع لشهواته، لا يمكنه الخضوع لله أو طاعته، لأنه لا يمكن للإنسان أن يخدم سيدين، كقول الكتاب: "لاَ يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ" (لو16: 13).
يصير الإنسان عبدًا وخادمًا لكل ما يخضع له، كقول الكتاب: "... لأَنَّ مَا انْغَلَبَ مِنْهُ أَحَدٌ، فَهُوَ لَهُ مُسْتَعْبَدٌ أَيْضًا!" (2بط2: 19). لقد تحكمت ذات الإنسان فيه بعد السقوط، وأصبحت ذاته وشهواته هي إلهه، الذي يعبده، ويخضع له، كقول معلمنا بولس: "الَّذِينَ نِهَايَتُهُمُ الْهَلاَكُ، الَّذِينَ إِلهُهُمْ بَطْنُهُمْ وَمَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِمِ، الَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي الأَرْضِيَّاتِ" (في 3: 19).
عندما خضع الإنسان لشهوة الأكل من شجرة معرفة الخير والشر صار عبدًا لذاته، والتي أيضًا صارت له سيدًا طاغيًا متجبرًا، يملي عليه كل رغبات الجسد، وهكذا صار الإنسان ضعيفًا، لا يقدر على مقاومة ذاته المنتفخة فيه ومتطلباتها.
← اقرأ هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت كتب أخرى لنفس المؤلف.
عَمَلَ إبليس كرئيس لعالم الشر، وما زال يعمل في كل من يعصي الله، من خلال شهوة الجسد، والتي بها يفسد العالم، كقول الكتاب: "الَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلًا حَسَبَ دَهْرِ هذَا الْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ، الَّذِينَ نَحْنُ أَيْضًا جَمِيعًا تَصَرَّفْنَا قَبْلًا بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضًا" (أف2: 2- 3).
يذكر الكتاب المقدس نوعان من الحكمة أحدهما حكمة صالحة، لأنها إلهية نازلة من السماء، وأخرى فاسدة، لأنها أرضية شيطانية نفسانية، ولا يمكن أن يخضع الإنسان للاثنين في آن واحد، لأن من يتعدى على وصية الله، يرفض حكمته، ويقبل الحكمة الشيطانية، التي وصفها الكتاب قائلًا: "لَيْسَتْ هذِهِ الْحِكْمَةُ نَازِلَةً مِنْ فَوْقُ، بَلْ هِيَ أَرْضِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ.لأَنَّهُ حَيْثُ الْغَيْرَةُ وَالتَّحَزُّبُ، هُنَاكَ التَّشْوِيشُ وَكُلُّ أَمْرٍ رَدِيءٍ" (يع3: 15- 16).
الحياة ترتبط بالحكمة فلا حياة دون الخضوع لشريعة الحكيم أي الله، كقول الكتاب: "شَرِيعَةُ الْحَكِيمِ يَنْبُوعُ حَيَاةٍ لِلْحَيَدَانِ عَنْ أَشْرَاكِ الْمَوْتِ" (أم13: 14).
إن الرب يسوع المسيح هو كلمة الله (اللوغوس) أقنوم الحكمة الذي قيل عنه: "وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ، الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرًّا وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً" (1كو1: 30). وقيل عنه أيضًا: "الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ" (كو2: 3).
إن حكمة الله هي حكمة صالحة، ولا حياة بدونها، ولا بديل عنها، كقول الكتاب: "لأَنَّهُ مَنْ يَجِدُنِي يَجِدُ الْحَيَاةَ، وَيَنَالُ رِضًى مِنَ الرَّبِّ، وَمَنْ يُخْطِئُ عَنِّي يَضُرُّ نَفْسَهُ. كُلُّ مُبْغِضِيَّ يُحِبُّونَ الْمَوْتَ" (أم8: 35- 36).
لقد تنازل الله العظيم، وأرسل ابنه حكمة الله ليهب الحياة لبني البشر البائسين، كقول الكتاب: "وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ" (غل4: 4).
تجسد ابن الله الرب يسوع المسيح، لكي يُظهر ويعطي الحياة لبني البشر الجالسين في الظلمة وظلال الموت، كقول الكتاب: "فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا" (1يو1: 2).
لقد كشف تجسد ابن الله عن اتضاع الله العجيب وحبه الفائق نحو كل إنسان، وذلك بظهوره في الجسد، ولكن هل ينكر الإنسان نفسه، ويقبل، ويؤمن بابن الله أقنوم الحكمة، ويخضع له طائِعًا لوصاياه المحيية، كقول الرب: "حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ: إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا" (مت16: 24- 25).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-bishoy-fayek/beginning-of-time/divine-wisdom.html
تقصير الرابط:
tak.la/hmx8r2v