"... مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ" (تك3: 17).
"فَالآنَ مَلْعُونٌ أَنْتَ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي فَتَحَتْ فَاهَا لِتَقْبَلَ دَمَ أَخِيكَ مِنْ يَدِكَ. مَتَى عَمِلْتَ الأَرْضَ لاَ تَعُودُ تُعْطِيكَ قُوَّتَهَا. تَائِهًا وَهَارِبًا تَكُونُ فِي الأَرْضِ" (تك4: 11- 12).
اختلف نص القول الإلهي في حالة تأديب وعقاب الله لكل من أبونا آدم وقايين الشرير ابنه، فلماذا؟ أليس جزاء الخطية واحد؟
في التأمل التالي نوضح ماذا يقصد الله بالأرض؟ وما معنى لعن الأرض؟ وكيف تلعن الأرض الإنسان؟ ولماذا لعن الله الأرض بدلًا من الخاطئ؟
لعنة الله لإنسان ما تعني غضب الله عليه، وعدم رضاه عنه، ولكن غضب الله على أي إنسان أمر لا يحتمله أحد، كقول الكتاب عن يوم الغضب الآتي أي يوم الدينونة: "وَمَنْ يَحْتَمِلُ يَوْمَ مَجِيئِهِ؟ وَمَنْ يَثْبُتُ عِنْدَ ظُهُورِهِ؟ لأَنَّهُ مِثْلُ نَارِ الْمُمَحِّصِ، وَمِثْلُ أَشْنَانِ الْقَصَّارِ" (مل3: 2).
إن لعنة الله لإنسان ما تعني هلاكه، كقوله للأشرار في يوم الدين: "ثُمَّ يَقُولُ أَيْضًا لِلَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ" (مت25: 41). لقد لعن الله الشيطان (الحية) عندما أغوى أمنا حواء، وهذا يعني أن الله أصدر الحكم بهلاكه، وهذا ما سيتم في مجيء الرب الثاني، حينما يلقى إبليس في البحيرة المتقدة بالنار والكبريت.
يتأنى الله كثيرًا، ولا يشاء أن يلعن أحدًا، لأنه لا يشاء هلاك الإنسان، بل رجوعه عن طرقه الشريرة. إن الله يؤجل لعنة الأشرار لزمان محدد وهو يوم الدينونة، أو هو يوم الغضب الآتي، كما سماه الكتاب المقدس بقوله: "وَتَنْتَظِرُوا ابْنَهُ مِنَ السَّمَاءِ، الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، يَسُوعَ، الَّذِي يُنْقِذُنَا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي" (1تس1: 10).
خلق الله الطبيعة أي السماء والأرض بما فيها، وما عليها من أشياء ومخلوقات حية، لأجل خدمة الإنسان وخيره. لقد سخر الله الكون كله لنفع الإنسان، كقول معلمنا بولس الرسول: "أَبُولُسُ، أَمْ أَبُلُّوسُ، أَمْ صَفَا، أَمِ الْعَالَمُ، أَمِ الْحَيَاةُ، أَمِ الْمَوْتُ، أَمِ الأَشْيَاءُ الْحَاضِرَةُ، أَمِ الْمُسْتَقْبِلَةُ. كُلُّ شَيْءٍ لَكُمْ" (1كو3: 22). نستنتج مما سبق أن الله خلق الأرض من أجل الإنسان. لقد ذُكرت كلمة الأرض في نص اللعنة التي لعن بها الله أبونا آدم، وأيضًا في نص اللعنة التي لعن بها قايين. ولكن هناك اختلاف في النصين. إن كلمة الأرض في النصين بلا شك تعني الأرض المادية التي نمشي عليها، لكنها أيضًا تشير لمعانٍ أعمق. فيما يلي نناقش ما المقصود بكلمة الأرض في كلا الحالتين.
لقد جاءت الكلمة بمعنى سكان الأرض كلها في بعض نصوص الكتاب المقدس، ومثال ذلك قول المرنم: "لِتَخْشَ الرَّبَّ كُلُّ الأَرْضِ، وَمِنْهُ لِيَخَفْ كُلُّ سُكَّانِ الْمَسْكُونَةِ. لأَنَّهُ قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ" (مز33: 8- 9). وطبعًا الجماد لا يمكنه أن يخشى الرب، لكن المقصود بالأرض هو سكان المسكونة، كما أوضح المرنم في نفس نص المزمور.
الأرض التي أعطاها الله للإنسان لخيره ليست هي فقط سطح الكرة الأرضية، لأن جسد الإنسان يعتبر أرضًا يسكن فيها، ويصير الإنسان في خير عندما يكون صحيحًا جسمًا ونفسًا وروحًا، وهذا لا يتحقق إلا بطاعة الله، وعمل مرضاته. أما إذا غضب الله على الإنسان فإن أرض جسده تنبت له شوكًا وحسكًا. لقد أكد معلمنا بولس الرسول هذا المفهوم قائلًا: "لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً" (غل6: 8).
← اقرأ هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت كتب أخرى لنفس المؤلف.
يحيا الإنسان على الأرض؛ يمشي عليها، ويأكل من خيرها، ويشرب من مائها. لقد جبل الله الأرض، وهي تخضع لسلطانه، تتبع مشيئته وإرادته، فحينما يرضى الله على الإنسان يبارك أرضه، كقوله: "تَعَهَّدْتَ الأَرْضَ وَجَعَلْتَهَا تَفِيضُ. تُغْنِيهَا جِدًّا. سَوَاقِي اللهِ مَلآنَةٌ مَاءً. تُهَيِّئُ طَعَامَهُمْ لأَنَّكَ هكَذَا تُعِدُّهَا" (مز65: 9). أما عندما يزيد شر الإنسان يؤدبه الله بلعنه الأرض، وبالتالي يقل خيرها، ولا تعطي الإنسان غلتها الوفيرة، وتنبت له شوكًا وحسكًا، كقوله: "لِذلِكَ مَنَعَتِ السَّمَاوَاتُ مِنْ فَوْقِكُمُ النَّدَى، وَمَنَعَتِ الأَرْضُ غَلَّتَهَا" (حج1: 10).
الضيقات التي يسمح بها الله من لعنات للأرض أو أمراض أو ضيقات شتى هدفها إبعاد الإنسان عن طريق الشر، ورجوعه إلى طريق الله الصالح، حتى لا يهلك. إنها تأديبات من أجل ردّه إلى الحق من الله الأب الحنون، كقول الكتاب: "لأَنِّي أَنَا مَعَكَ، يَقُولُ الرَّبُّ، لأُخَلِّصَكَ... بَلْ أُؤَدِّبُكَ بِالْحَقِّ، وَلاَ أُبَرِّئُكَ تَبْرِئَةً" (إر30: 11).
إن اللعنات التي أوقعها الله على أبونا آدم أو على قايين الشرير هي تأديبات مناسبة في كلا الحالتين، ولكن بالتدقيق في نص اللعنة التي نطق بها الله في حالة أبونا آدم نجده يختلف عن نص اللعنة التي أصابت قايين الشر. فيما يلي نبين ذلك بشيء من الإيضاح كل حالة على حدة:
النص: "... مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ" (تك 3: 17).
اللعنة التي أصابت آدم أب البشرية تبين شر الخطية، وما سببته للأرض من ضرر، منذ سقوط أبونا آدم في الخطية وحتى الآن، أي لكل الناس المولودين من آدم. إن شر الناس يرتد عليهم وعلى أبنائهم وإخوتهم، لأننا نحيا جميعًا على أرض مشتركة، وهكذا يُعَبِّرُ النص الخاص بأبونا آدم عن نتائج خطيته، لأنه أب جميع البشر الذي وَرَّثَ ذريته كلها الخطية بكل أتعابها. وتأكيدًا لهذا المعنى، يعلمنا الوحي الإلهي أن كل شر يقترفه الإنسان يؤثر على من حوله، كقول الكتاب: "اَلْحِكْمَةُ خَيْرٌ مِنْ أَدَوَاتِ الْحَرْبِ. أَمَّا خَاطِئٌ وَاحِدٌ فَيُفْسِدُ خَيْرًا جَزِيلًا" (جا9: 18). فهل ينتبه الإنسان، ويدرك مسئوليته تجاه الآخرين.
النص: "فَالآنَ مَلْعُونٌ أَنْتَ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي فَتَحَتْ فَاهَا لِتَقْبَلَ دَمَ أَخِيكَ مِنْ يَدِكَ" (تك4: 11).
يظهر جليًا من نص اللعنة الخاصة بقايين، أن شر قايين سيرتد على رأسه، ويضر به، لأن أرضه التي يأكل ثمرها ستبخل عليه بخيرها، أو أرضه التي هي جسده (أرضه) ستنقلب عليه، ولن يجد راحة لنفسه بسبب شره، كقول الكتاب: "لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ، وَلكِنَّ اهْتِمَامَ الرُّوحِ هُوَ حَيَاةٌ وَسَلاَمٌ" (رو8: 6).
إن من يعطي نفسه شهواتها يصير ملعونًا من أرضه المادية، أو ينقلب عليه جسده، الذي هو أيضًا أرضه، ويسبب له الاضطراب والخوف والقلق وعدم السلام، كقوله: "لاَ سَلاَمَ، قَالَ الرَّبُّ لِلأَشْرَارِ" (إش48: 22). لا يجد الشرير السلام مهما بحث عنه، أو اجتهد لأجله، لأنه يعيش بعيد عن الله، وهو تائه كمثل ضال في برية موحشة، لا يجد لنفسه راحة، ولا استقرار ولن يجد، كقول الله لقايين: "مَتَى عَمِلْتَ الأَرْضَ لاَ تَعُودُ تُعْطِيكَ قُوَّتَهَا. تَائِهًا وَهَارِبًا تَكُونُ فِي الأَرْضِ" (تك4: 12).
إن اللعنة التي وقعت على أبينا آدم، واللعنة التي وقعت على قايين الشرير يعطيان صورة متكاملة عن كيفية تأثير الخطية والشر على من يفعلها، وأيضًا عن خطورة تأثيرها على الآخرين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-bishoy-fayek/beginning-of-time/curse.html
تقصير الرابط:
tak.la/747avhb