أن كنيستنا تهتم دائمًا وتشجع الأنشطة الروحية التي تضم كل الأعمار السنية، عبورًا بكل مراحل النمو حسب أسس النظرية التعليمية، حتى لا ننحصر في فصول للدراسة أو اجتماعات للتلقين، مع التركيز على الأداء المثمر لأنشطة كل المراحل العمرية والتي ينبغي أن لا تقتصر على سن الطفولة فقط، بل تشمل الفتيان والشباب والخريجين أيضًا.
هذا الأداء المثمر يكون له إسهاماته في البناء الروحي والتربوي لكافة أعضاء الكنيسة، كركيزة للنمائية التربوية التي تصنع مسيحيين ساعيين في طريق الكمال، تجعل منهم معلمين ورعاة ونساكًا وشهداء للمسيح، بالخبرة والتعليم والممارسة، ونمو الفكر البشري وخبرة الشخص كإنسان، من أجل إثراء خدمة الفتيان والشباب كجماعات وكأفراد، ولكي تأتي الأنشطة بالثمر المرجو منها يجب أن تكون أنشطة كنسية ناضجة ليحقق فيها الشباب حماسة وفرادته وانجازه المتميز وكل الابتكارات التي تميز المرحلة العمرة للشباب، الذي لابد أن نخدمه روحًا وجسدًا وعقلًا وعاطفة، خدمة متكاملة لا نتجاهل أيًا من جوانبها، خدمة على كل الأصعدة، خلاقة وهادفة، منفتحة على كل المجهودات الإبداعية والجمالية خلال مصفاة الروحانية الأرثوذكسية مع الحرص على جمع الورد بعيدًا عن إيذاء الأشواك، فالأنشطة من أجل الكنيسة وليست الكنيسة من أجل الأنشطة.
ولا ثمر لأي نشاط دون أن يبدأ ويستمر وينتهي بالصلاة، وكذا الشركة والمساندة المتبادلة والأعداد الجيد والإيقاع المتوازن الذي يقي من الشطحات ومن الشعور بالملل، كما ويضمن الحيوية والاستمرار ببذل ومحبة ومواظبة الخدام بوحدانية قلب لضمان توافر المناخ الروحي والكرازي.
وتأتي الأنشطة بثمارها متى كانت واضحة الهدف سليمة الأداء، تنشأ وتستمر في نقاوة الجو الإيماني الخالي من العثرة وروح العالم، وتتقوى بتجميع الطاقات العاملة بأسلوب هارموني بدون تقاطعات أو حساسيات حتى لا تهدر الطاقات في الجدال والصراع والمدمدمة وتوافه الأمور التي تُدخل في متاعب مشتتة، وهنا تتحقق النتائج الباهرة لهذه الأنشطة فتكون ثمارها جذب النفوس وتوبة كثيرين من الذين تتفق نفسياتهم معها.
ولا يكفي أن يكون هدف الأنشطة هدفًا روحيًا، بل ينبغي أن تكن أساليب ممارستها روحية، حتى يعي الشباب أنهم يمارسون نشاطهم داخل الكنيسة وفي أحضانها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. لتصبح مجالًا لنمو روحياتهم في المسيح يسوع، ومجالًا لنمو قدراتهم ووزناتهم، ولتوجيه مواهبهم وطاقاتهم، فتكون سببًا لتمجيد اسم الرب ونمو وامتداد ملكوته على الأرض.
ينبغي أن يحمل النشاط في داخله السيد المسيح كهدف وطريق، من يشترك فيه تنمو قاماته وروحياته، وتتأصل عضويته الحية في جسم الكنيسة عندما تلتقي المواهب المتعددة والأنشطة المتباينة بروح واحد، من غير حسد لمن لهم مواهب ومن غير احتقار للذين هم اقل، فالجميع يتكامل خلال خدمة الأنشطة الكنسية وكما في الجيش لا يخدم الكل بنفس الطاقة، إنما كل يعمل حسب موقعه، هكذا في الكنيسة يعمل كل عضو حسب مواهبه.
وثمة أمر هام جدًا لنجاح أي نشاط إلا وهو إيمان الخدام والمخدومين بأهمية النشاط ووضوح هدفه في الأذهان عن طيب خاطر مع الاتفاق على أسلوب التنفيذ، والحماس المستمر الذي لا يتوقف فضلًا عن تقييم كل نشاط ومتابعته مع فاعلية الاتصالات والتذكير المستمر، فلا ثمار لنشاط بدون اتصال Communication أو بدون إعلان عن البرامج والأنشطة وتوزيع الأعمال.
فمن العسير أن نقول على عمل خامل لا هدف له ولا إشراف عليه أنه نشاط، فكيف يكون هناك نشاط لا نشاط فيه ولا حيوية، في حين أن النشاط يحتاج إلى اتصالات وأعداد ومتابعة، والشباب بطبيعته كتلة من الحيوية وتيار متدفق من الغرائز والعواطف الجياشة.
تلك الحيوية وهذه العواطف لابد لها من وضوح الهدف والاكتشاف وتأكيد الهوية، ليكون شبابنا مثمر إذ أن خدمة التعليم تتجه للعموميات بينما خدمة العمل الفردي والأنشطة تتلامس مع حياة الأعضاء لتوحدهم ويذوب الجميع في واحد ويصير النشاط خلية حية في جسم الخدمة والكنيسة، ووعاء نتعلم خلاله الحكمة والمعرفة وتصقل مواهبنا وتتقدس طاقاتنا وتتبارك طموحاتنا وتربح وزناتنا ويحضر كل إنسان كاملًا متأهبًا في المسيح يسوع ربنا. (كو 1: 24-29).
وهذه الثمار لن تنضج إلا بالأداء الذي يتميز بسلامة القصد والهدف والأسلوب (لأن الحاجة إلى واحد)، فليست الأنشطة هي الهدف وإلا ضاع الهدف... ولعل الأنشطة إذا أديت من أجل الأنشطة شابهتُ رحى تدور دون حنطة تطحن... ذات طنين عال وحقيقة تافهة!!
وكما أن أي عمل لا يُكتب له النجاح بدون قيادة ناجحة هكذا الحال أيضًا في خدمة الأنشطة فلابد لها من قيادة كنسية محبة باذلة يلمس فيها المخدومون القدوة بعيدًا عن السلطة والأمر والنهى، تقود النشاط الكنسي بفهم مدرك لطبيعة الشباب وسمات المرحلة وتساعدهم على التدريب على الأسلوب الناجح للتعامل مع ظروف الحياة... قيادة ذات أعين سريعة النظر وذهنية ثاقبة غير مظلمة، قيادة مملوءة بهجة وإقبال على الحياة وروح فرح، لأن الله خلق لنا كل شيء بغنَى للتمتع لتكون الأنشطة مصدر فرح ونمو في الشخصية لكل نفس حسبما أعطاها الله وشكل شخصيتها بصورة فريدة.
ولن يكون نجاح الأنشطة وإثمارها من خلال معتمين خاملين أو مجرد ناقلين ومؤديين لأنشطة متنوعة، فمن لم يكن يومًا ما جنديًا لا يقدر أن يكون قائدًا، يتعلم ويُعلم يتدرب ويدرب يُخدم ويخدم، فينمو كل يوم وتأتي أنشطته بثمر عندما يوصل كل نفس إلى حبيبها ومخلصها.
ويتكامل الأداء المثمر للأنشطة الروحية حينما يهتم رواد خدمة الشباب بتنمية قدراتهم ومواهبهم من أجل استكمال العمل الروحي، إذ أن الأنشطة هي بمثابة أدوات المنهج الروحي تفيد القلب وتنقي الذهن وتبني الوقت في تناغم بين معطيات علم النفس والتربية وبين التقليد الأرثوذكسي الحي.
والعمل الجموعي هو السبيل لتحقيق الأداء المثمر للأنشطة لأننا كنيسة أعضاء وليس كنيسة أفراد وكل عضو له دوره الوظيفي في الجسد، لذا لابد أن تُوظف الأعضاء وتُستثمر الطاقات حتى يستوعب العمل كل مواهب ويحتضن كل الإمكانات والقدرات البشرية.
فالخادم الأرثوذكسي لا يعرف الفردية، ولا عضو ينمو على حساب بقية الأعضاء، وهنا نضمن وجود قنوات ووسائل للتعبير عن قدرات الأعضاء، بما يسمح بامتصاصها وتحويلها عن السلبية المدمرة والمتفرجة إلى الإيجابية الباذلة المعطية والناكرة لذاتها.
فليس هناك مجال لخادم يلغي مَنْ حوله من الخدام لأن نجاح العمل لن يكون ألا بالرأي والرأي الآخر والحوار والقيادة الجماعية والمشاركة في الأنشطة وكذا من خلال تحقيق نموذج جموعية الشركة المثمرة حيث التفكير المشترك والتجهيز المشترك والعمل المشترك الذي ينشئ شركة حقيقية ويكسر حاجز العزلة والفردانية.
لذا لا يمكن لخدمة الأنشطة المتكاملة أن تقوم على سلبية الخدام أو عدم جديتهم، فكثير من الأنشطة لا يؤتى بثمر لغياب الأشراف الروحي عليه ومتابعته أو لعدم وجود قيادة مناسبة له أو لعدم المواظبة والالتزام، بينما القائد الناجح هو الذي يبدأ النشاط ويستمر فيه ليكمله ويعمل مؤديًا واجبه كقائد ملتزم نحو جيشه، بل ويقدم للكنيسة تلاميذ للرب وخادمين مثمرين لمساعدته في الخدمة، فالأيادي المتشابكة تصنع أنشطة مثمرة كالعوارض التي تربط الأعمدة.
ولا بد من غيرة الخدام والتزامهم بالمسئولية وتواجدهم من أجل الإشراف والمتابعة لهذه الأنشطة، فكيف ننتظر أنشطة مثمرة بدون إشراف روحي وقيادات يقظة؟
والتزام الخدام وغيرتهم لن يُفرض، بل لا بد أن ينبع من حب واختيار وإيمان بأن هذه الأنشطة ليست بأقل من خدمة التعليم بل هي مكملة لها لأن الاقتناع الهادئ بالاحتياج يثقل القلب بالاهتمام والبذل.
هذا الالتزام وهذه الجدية والاقتناع إنما هي وليدة قناعات روحية عند الخادم، لأن المسيح الرأس العامل في الخدمة هو موضوعها وهو أيضًا جوهر كل نشاط وعمل كنسي وبدونه تكون أنشطتنا مجرد حركيات وأعمال جافة.
ومن الدعامات المثمرة في خدمة الأنشطة افتقاد الأب الكاهن لكل نشاط ومتابعته بالإرشاد والمشورة أحيانًا وبالتواجد وافتقاد العمل كلما أتيحت الظروف، فتتواجد قنوات التلاقي بين النفوس والمسيح مخلصنا في أبوة الكهنوت التي تواجه وتحنن وتترفق وتشجع بكل وسيلة.
وبالجملة تترسخ القيم الإلهية وتتبارك نفوس الذين تشاركوا في الخدمات والأنشطة وسهروا على تنظيمها وتنفيذها وتتسع الأفاق بالتوعية والمشاركة والرقابة الروحية (جعلتك رقيبًا)، ويشغل فراغ الشباب البعيد، مع عدم الاكتفاء بالقلة التي تحيا داخل جداران الكنيسة.
ولابد أن يلمس المخدومون الشركة والألفة (الحوار، المحادثة، التفاهم، اللقاء الفكري، المصارحة، المشاطرة الذهنية والوجدانية، تشغيل الطاقات، رفع الحواجز، البعد عن الأساليب التقليدية).
وهذا كله لن يكون خلال الإطار الرسمي للاجتماعات بل من خلال الأنشطة الحية والتقوية التي فيها عن محبتنا الأمينة التي تصير فيها الأنشطة أعمال حسنة (عب10: 24)، وبهذا نثق في الأمور الحسنة العتيدة أن تأتي، ونستطيع أن نشجع ونحفز بعضنا البعض على النمو في المسيح، وبدلًا من أن نحيا مهزومين ندرك محبة الله لنا واهتمامه بنا وقدرته على تغييرنا في المسيح لنكون أقوياء وكلمة الله ثابتة فينا.
ولعل الكثير من خدام الشباب يرى أن خدمة الفتيان في سن المراهقة بل وشباب الجامعة تثمر وتتوافر بالأكثر ثمارها في الخلوات واللقاءات الروحية والدراسات والنادي الصيفي والمخيمات متى توافرت البرامج والأدوات الروحية بعناية، فافتقادهم روحيًا في هذه الأنشطة قد يكون أكثر نجاحًا عن الافتقاد في البيوت بأسلوبه التقليدي المعروف.
وبالنظر إلى أدوية العلاج نجد أن الطبيب لا يعالج جميع المرضَى بنفس الدواء، لذلك يحتاج الشباب إلى تحديث ومشوقات وإلى تنوع في الأنشطة الهادفة التي تقدم لهم لذا يجب أن ننفتح على كل ما يقبل عليه الشباب في حدة بصيرة النسر ورقة عيني الحمامة لتتقدس هذه الاحتياجات والوسائل تحت إشراف كنسي دقيق يتلاقَى مع ما يحتاجه الشباب.
فلا مجال في خدمة الأنشطة الشبابية لخادم لا يعي ظروف العصر والتحولات العجيبة الحادثة من حولنا، فليست الأنشطة وصفة أو برشامة نبتلعها إنما الهدف منها إشباع روحيات ونفوس الشباب وإتاحة الفرصة في التفكير في احتياجات الشباب وتحديات العصر من أجل خدمة متكاملة تعد شبابًا مسيحيًا يحيا مقدسًا طاهرًا أمينًا لله ومحبًا للوطن.
والشباب لا يريد مجرد الاستماع بل يريد المشاركة، لا يريد أن يبقى في مكان بل يطمع في الانطلاق والحركة ليكتشف الأرض سيرًا على الأقدام، فمن الخطأ عدم إشراك الشباب ونحن في عصر لغته الحوار والمشاركة للوصول إلى قناعات مشتركة، لذا يلزم دراسة كل نشاط بعمق شديد لتحديد هدفه وأسلوب القيام به مع المتابعة والتقييم المستمر والتعليل من أجل الأداء المتميز والمثمر بعيدًا عن الأوامر وأسلوب بيع الفكرة وفرضها، أو مشكلات الفريسية والحرفية فلن يقبل الشباب تهميشه أو تحجيمه، لذا لا ينبغي أن يساهم بنفسه في المجالات التي يرغب فيها حتى يصبح إيجابيًا بدلًا من أن يعتنق السلبية.
ومن الخطأ عدم احترام رغباتهم ومواهبهم أو السخرية من إمكانياتهم والتقليل منها وتتفيهها، فلا بد أن تظهر مشكلات في كل نشاط عند التطبيق وهذا دور القادة والخدام في سرعة المعالجة الواعية والهادئة، المدركة للواقع والاحتياج دون تشعب أو استقطاب بل بروح الحب والحوار ومزيد من العطاء واللمسات الروحية.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-athnasius-fahmy/activities/fruitful.html
تقصير الرابط:
tak.la/8mvd597