1- كان أول ما ينبغي عمله هو إصلاح حالة العبيد بتبني قضيتهم وحمايتهم من سوء معاملة سادتهم... كان السادة غير المؤمنين خارجين عن سلطان الكنيسة، أمَّا المؤمنون فكانت توصيهم باللطف وطول الأناة والعدل، وتُناشدهم أن يُعاملوا عبيدهم معاملة حسنة "وَأنتُمْ أَيُّهَا السَّادَةُ، افْعَلُوا لَهُمْ (العبيد) هذِهِ الأُمُورَ، تَارِكِينَ التَّهْدِيدَ، عَالِمِينَ أَنَّ سَيِّدَكُمْ أنتُمْ أيضًا فِي السَّمَاوَاتِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مُحَابَاةٌ" (أف 9:6).
لقد أعاد القديس بولس ثانية، العبد اللاجيء إليه -إنسيموس- إلى مولاه الأرضي فليمون، بعد أن جذبه إلى معرفة المسيح. لكنَّه أوصى فليمون أن يقبل العبد ويُعامله فيما بعد كأخ محبوب في المسيح، بل كأحشاء الرسول (فل 16،12)... من المستحيل أن نتصور إمكان وجود علاج أفضل من ذلك. ومن المستحيل أن نجد في الأدب القديم، ما يوازي رسالة بولس الرسول القصيرة إلى فليمون، والمملوءة لطفًا ورقة وإنسانية، فضلًا عن المشاركة الرقيقة لعبد مسكين(23).
2- كانت المعاملة القاسية التي يلقاها العبد من سيده المؤمن، سببًا كافيًا لطرد ذلك السيد من جماعة المؤمنين. كما كانت الكنيسة تُسقط لقب مسيحي عَمَن يُسيئون معاملة تابعيهم وخدمهم(24).
3- ولم يكن مجرد إعطاء الحماية والمعاملة الحسنة للعبيد كافيًا، بل كان على السادة أن يسمون بهم أدبيًا، فَيُعلِّمونهم الحق، ويقودونهم إلى النور... وكان على السيد المسيحي أن يكون مستعدًا أن يضع نفسه لِيَكون مُعلِّم عبده طواعيةٍ، تُحركه غيرته نحو أخيه العبد إلى ذلك الواجب... وكان السادة يُتممون هذا الواجب المقدس الصعب عن حب. هذا الأمر دعا الفيلسوف الوثني كلسوس لأن يسخر من المسيحية لِعِنَايتها بالعبيد. فَرَدَّ عليه أوريجينوس موضحًا أنَّ المسيحية آثرت الاتجاه إلى منبوذي العالم القديم، مُبتدئة بالعبيد، الذين لم يُفكر فيهم أحد. وقال له: (نحن نشعر أنَّنا مَدينون للعقلاء والجهلاء... نحن لا نرفض أحدًا، ولا حتى العبد العادي. فنحن نميل نحوه كما إلى طفل أو امرأة جاهلة، آملين أن نجعله في وضع أفضل)(25).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
4- ما أن يقبل العبيد والإماء الإيمان المسيحي، حتى كانوا يحصلون على عضوية الكنيسة كاملة، ويُرفعون فيها إلى مستوى الأحرار. كانوا يُعتبرون إخوة وأخوات للمؤمنين بكل ما في هذه الكلمة من معنى. وقد أشار بولس في رسالته إلى كولوسي إلى "أَبَفْرَاسَ الْعَبْدِ الْحَبِيبِ مَعَنَا، الَّذِي هُوَ خَادِمٌ أَمِينٌ لِلْمَسِيحِ" (كو 7:1)... ليس في الكنيسة أي أثر للفوارق الاجتماعية بين المسيحيين في أوقات العبادة. والفاصل الوحيد كان هو الذي يفصل الموعوظ عن المؤمن، والجنسيْن عن بعضهما(26)... بل ربما كان العبد في حالة أفضل روحيًا، حينما يكون هو مؤمنًا وسيده ما يزال موعوظًا... والعبد الذي يسجد جنبًا إلى جنب مع سيده في عبادة نفس الإله، لا يمكن أن يستمر فيه الإحساس بعدم الكرامة، أو مُركَّب النقص الذي يرتبط بوضعه الاجتماعي. وقد أَوجبت قوانين الرسل على السيد أن يحب عبده كابن أو كأخ بسبب إيمانهم الواحد(27).
5- كان في إمكان العبد أن يقبل أية وظيفة كنسية، حتى الأسقفية، إذا دُعِيَ إلى ذلك(28)... ولَدَينا مثل على ذلك، كلستوس Callistus الذي كان عبدًا مسيحيًا لسيد مسيحي، ووصل إلى منصب أسقف روما (217-222) وذُكر في قوانين الرسل أنَّ أنسيموس الذي كان عبدًا لفليمون رُسِمَ أسقفًا على بيرية(29).
6- وبفضل جهود الكنيسة في التعليم ورعايتها الروحية، أخذ كثير من السادة المسيحيين يعتقون عبيدهم المسيحيين... وكثيرًا ما كان يتم عتق العبيد وتحريرهم في الكنيسة، في أيام الأعياد الكبيرة، وعلى الأخص عيد القيامة، تذكارًا لعمل المسيح الفادي الذي حرَّرنا من أسر إبليس... وكان يُنظر إلى هذا العمل كعمل من أعمال الرحمة المقبولة لدى الله(30).
7- ونظرًا لأنَّ الحياة الدينية للعبيد المسيحيين الذين يعملون مع سادة غير مسيحيين كانت في خطر، فالكنيسة في بعض الأحيان، كانت تُشجع السادة الوثنيين على تحرير عبيدهم المسيحيين مقابل فدية مالية تدفعها الكنيسة(*).
8- من الناحية الأدبية، كانت شخصيات العبيد تتمتع بكل احترام الأحرار داخل الكنيسة. كان يجب احترام الإماء، ولا يُعتدَى عليهن بسبب ضعفهن... وكانت الكنيسة تحمي الروابط الزوجية للعبيد، وتنتظر منهم فضائل كما من الأحرار. وكنتيجة لذلك حازت فضائلهم نفس التقدير والاحترام وقد صار منهم شهداء وشهيدات(31).
9- أما من جهة العبيد أنفسهم، فقد اهتمت الكنيسة بحياتهم ونفسياتهم وروحياتهم وكانت تقوم بتعليمهم وتلقينهم الإيمان(32).
وإن كانت المسيحية لم تستطع -بقرار أو نداء أو تعليم- أن تُحرر العبيد كلهم دفعة واحدة، لكنَّها كانت أُولى الأنظمة التي جعلت من طاعة العبيد التي بلا سند، واجبًا أدبيًا يؤدَّى بفرح، بعد أن كانت الأنظمة القديمة تحرص على طاعة العبيد عن طريق الإرهاب والتخويف(33)... وهكذا أوصى القديس بولس العبيد بالصبر، وأن يبقوا في حالتهم، ويُعزوا أنفسهم بالفكرة أنَّهم عتقاء الرب... "اَلدَّعْوَةُ الَّتِي دُعِيَ فِيهَا كُلُّ وَاحِدٍ فَلْيَلْبَثْ فِيهَا. دُعِيتَ وَأنتَ عَبْدٌ فَلاَ يَهُمَّكَ. بَلْ وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أن تَصِيرَ حُرًّا فَاسْتَعْمِلْهَا بِالْحَرِيِّ. لأَنَّ مَنْ دُعِيَ فِي الرَّبِّ وَهُوَ عَبْدٌ، فَهُوَ عَتِيقُ الرَّبِّ. كَذلِكَ أيضًا الْحُرُّ الْمَدْعُوُّ هُوَ عَبْدٌ لِلْمَسِيحِ" (1كو 7: 20-22).
ومن ناحية أخرى عاونت المسيحية في تخفيف العار الذي كان مرتبطًا بالعمل كما كانت نظرة المجتمع القديم - لقد أكدَّت المسيحية وجوب العمل(34) وطالما كان العمل مرتبطًا بالعبودية، فقد استراح العبيد من الخزي الذي لحقهم ولصق بهم(35) [*].
وقد لاحظ العالِم دي روسي De Rossi ، الذي كرَّس جهوده لِدراسة سراديب روما والمقابر المسيحية الأولى أنَّ لقب "عبد" لم يُشاهده إطلاقًا في الكتابات على المقابر المسيحية(36) [*].
_____
(23) Schaff, Vol. 1, p.
446.أمرت قوانين الرسل بأن يُمنح العبيد راحة من العمل في بعض المواسم والتذكارات الدينية، وقد حدَّدتها كالآتي: السبت والأحد أسبوعيًا، وأسبوع البصخة، والأسبوع التالي لتذكار القيامة، وفي تذكارات الميلاد والغطاس والصعود وحلول الروح القدس وتذكارات استشهاد بعض الشهداء وفي مقدمتهم استفانوس. انظر:
Constitutions of the Holy Apostles, 8.33.
(24) Constitutions of the Holy Apostles,
4.6. Origen, C. Celsum, 3. 49.(26) Constitutions of the Holy Apostles,
2. 58; De Pressensé, Vol. 1, pp. 434-436.(27) Constitutions of the Holy Apostles, 4.12.
Ibid, 7.46.(29) Ibid, 7.46.
(30) Latourette, p
p. 261-263. Constitutions of the Holy Apostles, 4.9.(31) من أمثلة ذلك: بلاندينا من شهداء ليون، وفيليسيتاس رفيقة بربيتوا في قرطاجنة، وبروفيري عبد بامفيلوس البيروتي - انظر كتاب الاستشهاد في المسيحية،
Harnack, Missions, pp.
168, 169.(32) Aristides, Apol.,
15.(33) انظر: (كو 22:3؛ 1تي 1:6؛ 1بط 18:2)، وأيضًا:
Karl Kautsky, Foundations of Christianity, p.
350.(34) انظر: (أع 18: 1-3؛ أف 28:4؛ 2تس 3: 7-10).
(35) Latourette, p
p. 261-263.(36) Harnack, Mission..., p. 168.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-yoannes/apostolic-church/christianity-slavery-2.html
تقصير الرابط:
tak.la/vsm2c9w