سبق أن أشرنا إلى الرق في العالم الوثني، وما وصل إليه العبيد من مذلة واحتقار وسوء معاملة... هذا في الوثنية، أمَّا اليهودية فقد أظهرت معاملة أفضل للعبيد، فأوصت بعدم إساءة معاملتهم، وأمرت بعتق جميع العبيد اليهود في سنة اليوبيل، التي تقع كل خمسين سنة (لاويين 25: 39-46).
جاءت المسيحية ولم تُصدر تشريعًا عامًا وصريحًا ضد نظام الرق، بل على العكس تقابلنا بعض نصوص في رسائل الرسل تدعو العبيد إلى الطاعة الكاملة لسادتهم حسب الجسد، وتقديم الإكرام والخضوع اللائقين بهم(18)... وهذا ما دعا بعض أعداء المسيحية إلى أن يأخذوا عليها هذا الموقف، إنَّها لم تطالب بإلغاء الرق، بل شجعت عليه.
والواقع أنَّ الإنجيل -بروحه العام أكثر من أي نص خاص- قاوم روح التعسف المستمر والتحقير الأدبى نحو فئة الأرقاء... وهو لم يُوصِ في أي موضع منه بالعنف الخارجي أو المقاييس الثورية، لأنَّ ذلك -فضلًا عن كونه يتعارض مع طبيعة المسيحية ورسالتها- فإنَّه كان عديم الجدوى، بل ضار في تلك الأزمنة... وعوضًا عن ذلك، عالج المشكلة علاجًا جذريًا داخليًا، هادفًا بالدرجة الأولى إلى تلطيف حدة الشر ونزع شوكته، وأخيرًا إبطاله كليةً(19).
فالمسيحية تهدف قبل كل شيء إلى تحرير الإنسان -دون نظر إلى رتبة أو وضع اجتماعي- من أشرّ أنواع العبودية، أَلاَ وهي عبودية الخطية، وتهبه حرية روحية حقيقية، وتؤكد الوحدة الأولى لكافة البشر المخلوقين على صورة الله، وتُعلِّم بالفداء العام، والمساواة الروحية للجميع قدام الله "لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرّ... لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (غل 28:3)...
لقد تصرفت المسيحية إزاء مشكلة العبيد، بنفس طريقة الحل الموضوعي المنهجي، الذي عالجت به كثيرًا من مشكلات الحياة. إنَّها تهتم أولًا ودائمًا بالعلاج الجذري... تهتم بعلاج أساس المشكلة، لأنَّ في هذا حسم للمشكلة واستئصال لها من جذورها. ومن ناحية أخرى تهتم أن يكون علاجها سلميًا بما يتفق وطبيعة رسالتها... فنحن نرى أنَّها اهتمت بعلاج المشكلات الروحية جذريًا فعالجت القتل بالنهي عن مجرد الغضب "كُلُّ مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ" (1يو 15:3). وعالجت شهوة الجسد وأنواع الزنا، بالنهي عن مجرد النظرة المصحوبة بشهوة جسدية (مت 28:5)... وهذا يتفق مع منهجها، الذي يقضي بعدم وضع رقعة جديدة على ثوب عتيق، أو خمرًا جديدة في زقاق عتيقة... لأنَّه ماذا يحدث لو لم يُراعَ هذا المنهج؟ الجواب بفم رب المجد... "فَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَرْدَأَ... فَالْخَمْرُ تَنْصَبُّ وَالزِّقَاقُ تَتْلَفُ" (مت 17،16:9).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
هذا هو ما عَلَّمته المسيحية إزاء مشكلة الرق والعبيد... لقد نادت بالإصلاح الأدبي، دون أن تدخل في صراع مع الدولة وتشريعها الخاص بالعبيد... لم يكن من رسالتها الروحية، ومبادئها التي حددتها لنفسها، أن تعلن أو تطلب -من الوجهة القانونية- إنهاء نظام الرق. لو فعلت لك لجعلت من نفسها قوة سياسية، وتدخل في صراع مسلح، وتُعرِّض ما يؤخذ بالسيف إلى أن يُفقد بالسيف... ما كان أسهل على المسيحية، أن تُصدر شعارات برَّاقة تخص العبيد وتحريرهم(20)، حتى ما تكسبهم إلى صفوفها، لكنَّها لم تفعل شيئًا من ذلك. كان ذلك معناه قيام العبيد بثورات عارمة، لم تكن جديدة عليهم، فقد قاموا بعدة ثورات قبل ذلك وسحقتها قوات الدولة وانتهت إلى لا شيء. كانت إيطاليا في ذلك الوقت قد سحقت لِتوَّها إحدى ثورات العبيد بكل صعوبة، وكانت يقظة لأيَّة محاولة أخرى(21). إنَّ تحريك مثل هذه الثورات كان لا يؤدي إلى التقدم خطوة واحدة نحو الحرية... بل في هذه الحالة، كان أمام المسيحية طريقان: إمَّا أن تزول، وإمَّا أن تتوقف عن أن تكون ديانة الروح...
ومن ناحية أخرى، فإنَّ العبد الذي حطم قيود عبوديته المادية، ونال الحرية قبل أن يتحرر داخليًا (روحيًا) لا يكون قد تحرر حقًا... فقد يبقى على كل رذائل العبودية، ويستخدم حريته المكتسبة وقوته، استخدامًا استبداديًا خاطئًا... وفي هذه الحالة كانت العبودية ستظل باقية بكل فظاعتها، مع تغير واحد، هو أنَّ المُضطهَدين سيتحولون إلى مُضطهِدين...
كان من الأهمية بمكان إذن، أن تحرص الكنيسة على عدم إحداث هزة في المجتمع يتعرض معها الجميع، وتتعرض رسالتها إلى خطر محقق... لم تُبطل الكنيسة الرق بنص صريح، لكن من الإنصاف القول أنَّها قوضت هذا النظام بما أحدثته من تغييرات جوهرية في حياة الإنسان. والنتيجة، أنَّه حينما يفيق ذلك المخلوق البائس -الذي كان يُعامل كآلة صماء أو كجسد بلا نفس- لكرامته الأدبية، وحقوقه وواجباته، تبطُل الحجة لإبقائه في العبودية. والمسيحية وقد ظهرت أولًا حامية للعبد في ضعفه، كانت تميل دائمًا إلى تحريره الكامل(22).
_____
(18) انظر: (كو 22:3؛ 1تى 1:6؛ 1بط 18:2).
(19) Schaff, Vol. 1, p. 445.
(20) كان عدد العبيد في حكم الإمبراطور كلوديوس (حوالي منتصف القرن الأول الميلادي)، يوازي نصف سكان الإمبراطورية الرومانية كلها، أي حوالي ستين مليونًا حسب تقدير المؤرخ جيبون Gibbon.
(21) Hill, pp.
235-237.(22) De Pressensé, Vol. 1, pp.
430-433.الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-yoannes/apostolic-church/christianity-slavery-1.html
تقصير الرابط:
tak.la/9757fyg