ينادون بالبساطة في الإيمان
العقيدة والخلاص
من هو الإنسان البسيط؟ وما معنى كلمة البساطة؟ أليس البسيط هو الذي يقبل الإيمان، كما قصده الإنجيل..."الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى" (عب 11: 1)، دون فحص عقلي يفسد بساطة الإيمان؟
هل البسيط هو من لا يدرك التمييز بين إيمان ينادى بأن المسيح هو الله، وآخر يعتبر المسيح نبيًا؟
إن البساطة لا تتعارض مع الحكمة، فالسيد المسيح طالبنا أن نكون "حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ" (مت 10: 16).
في تقديري أن:
البسيط هو الإنسان الذي يؤمن ببساطة دون جدل عقلي، أن على المذبح جسدًا حقيقًا ودمًا حقيقيًا ليسوع المسيح إلهنا، حسب نطق السيد المسيح، وإعلان الإنجيل.
البسيط هو من يؤمن أن العذراء مريم هي أم الله المتجسد ويتشفع بها، وستفيد من أمومتها وقوتها.. دون أن يدخل في جدل عقلي عقيم، ويتشوه ذهنه بانحرافات خاطئة.
البسيط هو من يحترم الكهنوت، ويقدر دوره، ويلجأ لأبيه الروحي، ويستشيره، ويستفيد من أبوته، ويسمع لكلامه، ويطيع حكمه في فصل النزاعات الحادثة طبيعيًا بين الأخوة والأحباء.
البسيط هو من يؤمن بدون شك، ويكل تلقائية بأهمية المعمودية للخلاص، ويسارع بتقديم ابنه وابنته للمعمودية دون تأخير، وبكل فرحة وإيمان.
البسيط هو من يؤمن بضرورة الصلاة على الراقدين، وأنهم أحياء في السماء يسمعون لنا، ويصلون عنا، ونتشارك معًا في الجسد الواحد للمسيح يسوع حتى بعد انتقالهم للسماء.
البسيط هو من يشترك -دون سفسطة- في صيامات الكنيسة، وأعيادها، ومناسباتها الروحية ببساطة قلب، وفرحة الشركة المقدسة.
حقًا..
سيسبقنا البسطاء إلى ملكوت السموات.. ولكن يجب التمييز بين كل من:
أ -الإنسان البسيط.
ب -الإنسان اللاأدْري(1).
ت -الإنسان العبثي(2).
ث -الإنسان اللامبالي.
ليست البساطة هي طلب تعليل وتفسير آية وإقناع عقلي لكل ما تُعَلم به الكنيسة... بل هذا هو التعقيد بعينه، وكذلك ليست البساطة هي أن نؤمن بأي مفهوم منحرف دون تمييز.
فهل يقبل أحد أن شخصًا يؤمن ببساطة بالثالوث الوثني الفرعوني، أو يفهم الثالوث المسيحي بطريقة وثنية تحمل معنى تعدد الآلهة... أو بطريقة توحيدية تلغى الثالوث... هل لنا أن نعتبره مسيحيًا وسيخلص؟ أم على الكنيسة أن تفطنه، وتشرح له الإيمان كما ينبغي أن يكون؟ ألم يقُل الكتاب: "وَيَمُوتُونَ بِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ" (أي 36: 12)، "سُبِيَ شَعْبِي لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ" (إش 5: 13)؟
ومرة أخرى يقول: "قَدْ هَلَكَ شَعْبِي مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ. لأَنَّكَ أَنْتَ رَفَضْتَ الْمَعْرِفَةَ أَرْفُضُكَ أَنَا" (هو 4: 6)، وينصحنا الحكيم سليمان:
"إِنْ دَعَوْتَ الْمَعْرِفَةَ، وَرَفَعْتَ صَوْتَكَ إِلَى الْفَهْمِ، إِنْ طَلَبْتَهَا كَالْفِضَّةِ، وَبَحَثْتَ عَنْهَا كَالْكُنُوزِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُ مَخَافَةَ الرَّبِّ، وَتَجِدُ مَعْرِفَةَ اللهِ" (أم 2: 3- 5).
"وَبِالْمَعْرِفَةِ يَنْجُو الصِّدِّيقُونَ" (أم 11: 9).
"اَلرَّجُلُ الذَّكِيُّ يَسْتُرُ الْمَعْرِفَةَ، وَقَلْبُ الْجَاهِلِ يُنَادِي بِالْحَمَقِ" (أم 12: 23).
"ذُو الْمَعْرِفَةِ يُبْقِي كَلاَمَهُ، وَذُو الْفَهْمِ وَقُورُ الرُّوحِ" (أم 17: 27).
"كُفَّ يَا ابْنِي عَنِ اسْتِمَاعِ التَّعْلِيمِ لِلضَّلاَلَةِ عَنْ كَلاَمِ الْمَعْرِفَةِ" (أم 19: 27).
وقيل عن الروح القدس: "رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ" (إش 11: 2). فكيف للإنسان الذي يسكن فيه الروح القدس، ألا يكون حكيمًا، وفهيمًا، وعارفًا؟
قيل عن الكاهن: "أَنَّ شَفَتَيِ الْكَاهِنِ تَحْفَظَانِ مَعْرِفَةً، وَمِنْ فَمِهِ يَطْلُبُونَ الشَّرِيعَةَ، لأَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْجُنُودِ" (ملا 2: 7).
لقد كانت عدم المعرفة هي سبب ضياع اليهود "لأَنِّي أَشْهَدُ لَهُمْ أَنَّ لَهُمْ غَيْرَةً ِللهِ، وَلكِنْ لَيْسَ حَسَبَ الْمَعْرِفَةِ" (رو 10: 2)، وقد وبخهم ملاخي النبي، بسبب انحرافهم عن المعرفة الحقيقية، فيكمل قائلًا: "أَمَّا أَنْتُمْ فَحِدْتُمْ عَنِ الطَّرِيقِ وَأَعْثَرْتُمْ كَثِيرِينَ بِالشَّرِيعَةِ. أَفْسَدْتُمْ عَهْدَ لاَوِي، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ" (ملا 2: 8).
لذلك لم يكتف معلمنا بولس بأن يتمنى لهم الخلاص... بل كان يكرز لهم بالإيمان السليم الذي حسب المعرفة.
ومعلمنا بطرس الرسول يطالبنا بأن نعرف عندما قال: "وَلِهذَا عَيْنِهِ وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ اجْتِهَادٍ قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً، وَفِي الْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً، وَفِي الْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفًا...لأَنَّ هذِهِ إِذَا كَانَتْ فِيكُمْ وَكَثُرَتْ، تُصَيِّرُكُمْ لاَ مُتَكَاسِلِينَ وَلاَ غَيْرَ مُثْمِرِينَ لِمَعْرِفَةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. لأَنَّ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ هذِهِ، هُوَ أَعْمَى قَصِيرُ الْبَصَرِ، قَدْ نَسِيَ تَطْهِيرَ خَطَايَاهُ السَّالِفَةِ" (2 بط 1: 5-9).
لمن قيلت هذه الآية؟ هل قيلت لصفوة من الناس يحتكرون المعرفة اللاهوتية، ويحجبونها عن الناس؟ أم قيلت لكل من يؤمن بأن الكتاب المقدس هو كتاب موحى به من الله ونافع؟
لذلك نسمع ونطيع معلمنا بولس الرسول:
"إِلَى أَنْ أَجِيءَ اعْكُفْ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالْوَعْظِ وَالتَّعْلِيمِ... اهْتَمَّ بِهذَا. كُنْ فِيهِ، لِكَيْ يَكُونَ تَقَدُّمُكَ ظَاهِرًا فِي كُلِّ شَيْءٍ. لاَحِظْ نَفْسَكَ وَالتَّعْلِيمَ وَدَاوِمْ عَلَى ذلِكَ، لأَنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ هذَا، تُخَلِّصُ نَفْسَكَ وَالَّذِينَ يَسْمَعُونَكَ أَيْضًا" (1 تي 4: 13 - 16).
"لِكَيْ تُوصِيَ قَوْمًا أَنْ لاَ يُعَلِّمُوا تَعْلِيمًا آخَرَ، 4وَلاَ يُصْغُوا إِلَى خُرَافَاتٍ وَأَنْسَابٍ لاَ حَدَّ لَهَا، تُسَبِّبُ مُبَاحَثَاتٍ دُونَ بُنْيَانِ اللهِ الَّذِي فِي الإِيمَانِ.... الأُمُورُ الَّتِي إِذْ زَاغَ قَوْمٌ عَنْهَا، انْحَرَفُوا إِلَى كَلاَمٍ بَاطِل. يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا مُعَلِّمِي النَّامُوسِ، وَهُمْ لاَ يَفْهَمُونَ مَا يَقُولُونَ، وَلاَ مَا يُقَرِّرُونَهُ" (1 تي 1: 3 - 7).
"إِنْ فَكَّرْتَ الإِخْوَةَ بِهذَا، تَكُونُ خَادِمًا صَالِحًا لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، مُتَرَبِّيًا بِكَلاَمِ الإِيمَانِ وَالتَّعْلِيمِ الْحَسَنِ الَّذِي تَتَبَّعْتَهُ. وَأَمَّا الْخُرَافَاتُ الدَّنِسَةُ الْعَجَائِزِيَّةُ فَارْفُضْهَا، وَرَوِّضْ نَفْسَكَ لِلتَّقْوَى" (1 تي 7، 4: 6).
لهذا يهتم معلمنا بولس الرسول إلى هذا الحد بنقاوة التعليم والمعرفة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.. وهل نحن نفهم السيد المسيح وقصده، أكثر مما فهمه الآباء الرسل، وأكثر مما شرحه الإنجيل؟
لماذا تغييب الناس عن العقيدة، وهي سبيل خلاصهم؟
لماذا نحتقر عقول الناس، ونُتَفَه الأمور اللازمة لخلاصهم، ونحجب المعرفة عنهم؟
لماذا نخدع بعضنا بعضًا، ولا نكون صرحاء واضحين نعلن إيماننا بقوة وشجاعة وفهم سليم؟
لماذا لا نفتخر بإيماننا وفلسفته الإلهية الخلاصية؟
حقًا..
يجب أن نكون بسطاء كالحمام.. ولكن حكماء كالحيات.. ولا ينبغي أن تكون البساطة سببًا للجهل والهلاك... بل بالعكس تكون سببًا للتمسك بإيمان الكنيسة المقدسة بدون مجادلة فكرية عقيمة.
فلنترك عنا إذًا هذه الأسئلة التي تخرجنا عن بساطة الإيمان...
أريد آية تثبت صحة الصوم بالأكل النباتي.
أريد آية تثبت قانونية القداس.
أريد آية تثبت صحة شفاعة القديسين.
أريد آية تثبت صحة الصلاة على الراقدين.
أريد آية تقنعني بضرورة الاعتراف على الأب الكاهن.
صديقي القارئ المحبوب - مع وجود آيات هذا عددها، وقد استعرضنا كثيرًا منها في هذا الكتاب، لكن دعنا نستلم من الكنيسة والآباء ما عاشوه وما عملوه وما فهموه ببساطة.
_____
(1) "مبدأ الاأدري" هو مبدأً فلسفيًا، يقوم على فكرة أنه لا يوجد دليل على وجود الله مع عدم إنكار إمكانية وجوده (Agnostic).
(2) "العبثية" مبدأ فلسفيا، يقوم على الإيمان بعدم جدوى الكفاح الإنساني، وأن وجود البشر في الكون غير منطقي ولا معنى له (Absurdism, Futility).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-raphael/church/simple.html
تقصير الرابط:
tak.la/wm94wnb