محتويات: (إظهار/إخفاء) |
لماذا صلَّى الرب يسوع؟ في اسمك ليكونوا واحدًا كما نحن ليست الوحدة قوة جبرية أيها الآب القدوس الخلاصة |
ثانيًا: السيد المسيح يُصلي من أجل وحدة الكنيسة:
"تكلَّم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء وقال: أيها الآب، قد أتت الساعة" (يو17: 1).
قبل أن نخوض في كلمات الصلاة التي فاه بها مُعلِّمنا الصالح، دعنا أولًا نجيب عن تساؤل..
لقد صلى الرب يسوع ليلة آلامه هذه الصلاة الطويلة العميقة المدونة في (يوحنا 17)..
(1) ليُعلِّمنا أن نُصلى وقت الشدة.. فهو المُعلِّم الصالح والنموذج المثالي للإنسان الحقيقي.
(2) لأنه – وهو الله بالحقيقة – صار إنسانًا بالحقيقة.. لذلك كان لابد أن يشابهنا في كل شيء، ويعيش حياتنا بكل تفاصيلها ويُقدم لنا نموذجًا مثاليًا للإنسان. لذلك كان يُصلي، ولذلك أيضًا صام واعتمد وقبل الختان، والتزم بكل ما يلتزم به الإنسان بصفته إنسان حقيقي كامل بلا عيب.. "لأنه هكذا يَليقُ بنا أن نُكمِّل كلَّ برٍّ" (مت3: 15).
(3) لأن الآلام التي ستقع عليه هي آلام حقيقية وعنيفة جدًّا.. لم تكن آلامًا وهمية، ولم يخف الألم بسبب أن الناسوت مُتحد باللاهوت. والسيد المسيح كان عارفًا – بلاهوته - بعنف وشدة هذه الآلام.. لأنه سيقبلها في ناسوته القابل للألم.. لذلك كان يليق به أن يُصلي حتى يجتاز التجربة العنيفة بسلام. (لم يتأثر اللاهوت بالألم، والصلب، والموت، ولم يتدخل ليُخفف شدة الألم، أو ليمنع الموت.. بالرغم أن اللاهوت لم يفارق الناسوت لحظة واحدة ولا طرفة عين).
(4) وصلَّى لكي يُعلن لنا رغبة قلبه من خلال كلمات صلاته.. فهو يريد:
* أن يعطى حياة للعالم.. "ليُعطي حياة أبدية لكل مَنْ أعطيتَه" (يو17: 2).
* أن يعطى معرفة الآب للناس.. "أن يَعرفُوك أنتَ الإله الحقيقي وحدَكَ" (يو17: 3).
* أن يحفظنا الآب.. "احفظهُم في اسمكَ الذينَ أعطيتني" (يو17: 11)، "لستُ أسألُ أن تأخذهُم من العالم, بل أن تحفظهُم من الشرير" (يو17: 15).
* أن نتمجد بالمسيح.. "وأنا قد أعطيتُهُم المجد الذي أعطيتني" (يو17: 22).
* أن يكون الجميع واحدًا.. وهذا هو لُب موضوعنا.. لقد صلَّى السيد المسيح من أجل وحدة شعبه، وكان إلحاح السيد المسيح شديدًا على هذه العبارة، وكأنه أراد أن يعلن بقوة أن أكثر ما يهمه، ويشغل باله قبل آلامه.. أن يكون الجميع واحدًا..
* "أيها الآب القدوس، احفظهم في اسمك الذين أعطيتني، ليكونوا واحدًا كما نحن" (يو17: 11).
* "لستُ أسال من أجل هؤلاء فقط، بل أيضًا من أجل الذين يُؤمنون بي بكلامِهم، ليكون الجميع واحدًا، كما أنك أنتَ أيها الآب فيَّ وأنا فيكَ، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا، ليُؤمن العالم أنك أرسلتني. وأنا قد أعطيتُهُم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد. أنا فيهم وأنتَ فيَّ ليكونوا مُكمَّلين إلى واحدٍ، وليعلَم العالم أنكَ أرسلتني, وأحببتَهُم كما أحببتني" (يو17: 20-23).
* لقد ربط السيد المسيح بين وحدتنا معًا وبين الثالوث "كما نحن"، "كما نحن واحد"..
إن النمط الذي يريده السيد المسيح لوحدة الكنيسة هو النمط الثالوثي.. كيف أن الأعضاء متمايزون دون انفصال.. دون تنافس، وبحب عميق من قلب طاهر بشدة.
* كذلك ربط السيد المسيح بين وحدة شعبه وبين قوة الكرازة.. "ليؤمن العالم أنك أرسلتني".. كيف يؤمن العالم بلاهوت الابن؟ وكيف يؤمن الناس بالثالوث، وهم يرون المسيحية منشقة والمسيحيين غير متحدين؟
إن قوة الكرازة والخدمة والعمل الكنسي تكمُن في وحدانية الأعضاء.
* وربط كذلك السيد المسيح بين وحدة الكنيسة والمجد الذي نناله..
* "أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكونُ أنا، لينظُروا مجدي الذي أعطيتني، لأنكَ أحببتني قبل إنشاءِ العالمِ" (يو17: 24).
* "وأنا قد أعطيتُهُم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد" (يو17: 22).
حقًا.. إن مجد الكنيسة بل ومجد الله كائن في وحدتنا ومحبتنا بعضنا لبعض.. لذلك تُصرِّح الكنيسة في بداية القداس.. "مجدًا وإكرامًا.. إكرامًا ومجدًا.. للثالوث القدوس.. سلامًا وبُنيانًا لكنيسة الله الواحدة..." مُعلنة بذلك أن الإفخارستيا هي سبيل المجد لأنها طريق الوحدة.
"احفظهم في اسمك الذين أعطيتني، ليكونوا واحدًا كما نحن" (يو17: 11).. لقد ربط السيد المسيح – في صلاته الوداعية – بين وحدة شعبه، وبين حفظهم في اسم الآب.
الاسم هو التعبير عن الشخص. فاسم الإنسان يعنى شخصه، واسم الله يعنى شخص الله، وحضوره وقوته وفاعليته.
لذلك فلا يمكن أن تُحفَظ وحدة الكنيسة بدون الدخول في قوة وطاقة الاسم الحسن المملوء مجدًا الذي للثالوث القدوس..
* فهو اسم قوى.. "اسم الرب برج حصين، يركضُ إليه الصِّديقُ ويَتَمَنَّعُ" (أم18: 10).
* وهو اسم يُخلِّص.. "ويكون أنَّ كلَّ مَنْ يَدعُو باسم الرب يَنجُو" (يؤ2: 32)، "ويكون كلُّ مَنْ يَدعُو باسم الرب يَخلُصُ" (أع2: 21)، "وليس بأحدٍ غيرِهِ الخلاصُ. لأن ليس اسم آخر تحتَ السماءِ، قد أُعطيَ بين الناس، به ينبغي أن نَخلُص" (أع4: 12)، "وتدعُو اسمَهُ يسوع. لأنه يُخلِّص شعبَهُ من خطاياهُم" (مت1: 21).
* وهو الاسم الذي اعتمدنا به.. "كانوا مُعتَمِدين باسم الرب يسوع" (أع8: 16)، "وأمَرَ أن يَعتمدُوا باسم الرب" (أع10: 48).
* وهو الاسم الذي يشفي الأمراض.. "ليس لي فضة ولا ذهب، ولكن الذي لي فإياهُ أُعطيك: باسم يسوع المسيح الناصريِّ قُم وامشِ" (أع3: 6).
لذلك فمناداة اسم الله لها قوة خلاصية.. لأن النطق باسم الله -بوقار وهيبة- يدخلنا في مجال قوة عمله، وكأننا نهتم بحضور الله، أو بدخولنا في حضرته، كما هتف أطفال العبرانيين في استقبال السيد المسيح بأورشليم قائلين: "أُوصنا لابن داود! مُبارك الآتي باسم الرب" (مت21: 9).
ولذلك فصلواتنا دائمًا تبدأ بمناداة اسم الثالوث.. "باسم الآب والابن والروح القدس، مبارك الله الآب ضابط الكل آمين، مبارك ابنه الوحيد يسوع المسيح ربنا آمين، مبارك الروح القدس المُعزي آمين".
نبدأ بهذه المُناداة في كل صلوات الكنيسة: في القداس، وفي الإكليل، وفي السيامات، وفي المعمودية، وفي الرشم بالزيت، وفي رشم درج البخور.. إنه الاسم الحلو الذي يملأ الكنيسة قوة وفعالية ونصرة.
من هنا تكون قوة اسم الله هي التي تحفظ تلاميذه والمؤمنين في نعمة الوحدة.. فليست وحدة الكنيسة هي نتاج مجهود بشري، أو حوارات لاهوتية تزيد الفرقة، ولا هي نتيجة ذكاء إنسان ولباقته وحسن غلبته في الحوار اللاهوتي.. بل هي عمل نعمة الله في الكنيسة بحسب تدبير الأزمنة.
* الوحدة هنا ليست تكتلًا بشريًا، بل هي الحفظ في اسم الآب وحضن الابن وفي فعل الروح القدس.
* الوحدة هي حفظ الكنيسة من تيارات العالم الأثيمة.. محمية ومحفوظة في كنف الثالوث القدوس.
* ليست الوحدة مجرد تآلف وعشرة ومودة وإجماع على رأي أو مشورة.. بل هي وحدة عضوية كمثال أعضاء الجسد الواحد، تأخذ قوتها وتحقيقها بل وجمالها من وجود المسيح كرأس لهذا الجسد.. يحفظ وحدانية وسيمفونية حركته.
والسيد المسيح -رأس الجسد- لا يعرف غير الوحدة.. فمن جهة هو في وحدة مع الآب في الجوهر منذ الأزل، ومن جهة أخرى هو في وحدة مع الطبيعة البشرية بسبب التجسد في ملء الزمان وإلى الأبد.
فهو بصفته رأس الجسد.. يسكب من روح الوحدة التي فيه، فتسرى كتيار داخل كل الأعضاء.. فنصير كلنا واحدًا معًا كما أنه واحد مع الآب، ونصير أيضًا واحدًا فيه، كما صار هو طبيعة واحدة من بعد الاتحاد.. بدون انفصال بين اللاهوت والناسوت.
* كيف يتسنى بعد ذلك لشخص مسيحي يؤمن بالثالوث.. ألا يعيش هذه الوحدة الجميلة كمثال الثالوث، وكمثال التجسد؟
* كيف لنا أن نتشدق بنقاوة الإيمان المسيحي السليم، ونحن لا نعرف أن نقدم للعالم برهانًا تطبيقيًا لما نؤمن به من وحدة في الطبائع ووحدة الثالوث؟
إن برهان صدق إيماننا هو أننا نعيشه تطبيقيًا في حياتنا.
ليس المقصود في وحدة شعب الله أن تنسكب روح الوحدة فينا بطريقة مفروضة علينا من الخارج، أو بطريقة جبرية بدون إرادتنا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى.. فليس هذا منهج الله معنا.. فهو يحترم دورنا، ويقدر إنسانيتنا، ويتلمس رأينا وموافقتنا، ولا يقتحم حياتنا، بل يقف خارجًا ويقرع، ويسأل حتى المريض: "أتريد أن تبرأ؟" (يو5: 6).
وكم من مرة تتعارض إرادتنا مع إرادة الله، ويتركنا الله لمشورة أنفسنا، إلى أن نعود إليه برغبتنا وحرية إرادتنا.
إن صلاة السيد المسيح من أجل الوحدة.. هي أن ينشأ فكر الوحدة فينا من الداخل، وذلك بثباتنا في الاسم المقدس، وخضوعنا لكلمة الله المُطهِّرة، وبالصلاة المنسكبة من أجل الكنيسة وبنيان الجسد، وبقوة الروح القدس الفعالة لهذه الوحدة عينها.
لذلك.. فالكنيسة واحدة وحيدة مقدسة جامعة رسولية بفعل الروح القدس الذي انسكب عليها يوم الخمسين.. لكن هذه الوحدة تحتاج أن نتمسك بها برغبتنا لتنمو وتستمر وتنشط.
لقد كان آباؤنا الرسل هم بذرة الكنيسة الأولى التي أُنبتت بفعل صلاة السيد المسيح، وحُفظت على مدى الأجيال بقوة الروح القدس واسم الآب.
اسم الآب الذي – إن تمسكنا به – يصير هو القوة التي تُوحِّد وترفع الفوارق، وتذيب الاختلافات، وتُصيّر الكنيسة واحدة كقصد الله فيها.. "جميع الذين آمنُوا كانوا معًا، وكان عندهم كل شيء مُشتركًا. والأملاكُ والمقتنياتُ كانوا يَبيعونَها ويَقسمُونَها بين الجميع، كما يكون لكلِّ واحدٍ احتياج. وكانوا كل يوم يُواظبون في الهيكل (الكنيسة) بنفسٍ واحدةٍ... وكان الرب كلَّ يومٍ يضمُّ إلى الكنيسة الذين يَخلُصون" (أع2: 44-47).
لقد ربط السيد المسيح في صلاته بين وحدتنا، وبين إنسكاب روحه القدوس فينا من الآب القدوس.. إنها وحدة القداسة والطهارة.. "إجعلنا كلنا مستحقين أن نتناول من قدساتك طهارة لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا، لكي نكون جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا، ونجد نصيبًا وميراثًا مع جميع القديسين الذين أرضوك منذ البدء" (القداس الإلهي).
فالطهارة المسيحية هي أساس وحدة الكنيسة.. "لكي إذ طهرتنا توحدنا بك" (القداس الإلهي).. لأنه خارج القداسة والتقديس يوجد العالم ونجاساته. فالتقديس هو الانفصال عن العالميات "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم" (1يو2: 15). ونحن ننفصل عن العالم بإنجذابنا نحو الله الآب القدوس، فنتجمع فيه ونصير واحدًا فيه وبه وباسمه.
في صلاة الرب يسوع الوداعية.. ركز على أن "يكون الجميع واحدًا"..
وكقوة دافعة للكرازة باسم المسيح.
وكمجد تناله الكنيسة بالروح القدس.
والوحدة تستمد قوتها من اسم الآب.
وهي برهان على صدق الإيمان عمليًا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-raphael/all-may-be-one/sacraments.html
تقصير الرابط:
tak.la/rcb2tjz