للحياة ثلاثة مظاهر، الأول الحياة في
الجسد والثاني الحياة المتوسطة ما بين الموت الجسداني ويوم
الدينونة العامة (في الفردوس أو الجحيم) والثالث هو الحياة الأبدية
والتي تبدأ بيوم الدينونة ولا تنتهي أبدًا، وأما عن الحياة التي
نحياها الآن فهي التي وهبها الله لنا لكي نستمتع بأعماله ونفرح
بخلقته، ثم نعمل ونعين والآخرين وخلال هذا وذاك نستعد للسفر البعيد
في الأبدية برفقة الله. وقد خلق الله الإنسان بعد أن أعد له
جميع ما يحتاج إليه، وجعل تمايُزًا بين الفرد والآخر حتى يكملوا
بعضهم بعضًا. هذا ويولد الإنسان كاملًا يملك إمكانية الحياة والرقي
والتميز، كما أن الله يرافقه في مسيرته ولا يتخلى عنه، بل حتى
الذين يعانون من الإعاقة الجسدية أو النفسية أو الذهنية، لن تحول
إعاقتهم دون دخول الملكوت والذي هو أهم بكثير من بضع عشرات من
السنين يَحْيَها الإنسان هنا، وفي المقابل ليس هناك في الحياة
الأبدية أية إعاقة. وعلينا أن نتذكر دائمًا أنه لا يوجد
شيء ثابت في هذه الحياة، بل كل شيء وكل إنسان قابل للتطور
والتغيّر، فإن الناس أنفسهم تبدأ حياتهم بطفولة بريئة ملائكية
يعقبها فترة الصبا ثم البلوغ فالشباب فالرجولة ثم الكهولة وأخيرًا
الشيخوخة والتي ما أن تحلّ حتى ترى الإنسان وكأنه بات ينتظر رحيله
عن هذا العالم، بعد أن تثقل بالمرض وكدَس الخبرات التي يؤكد بأن كل
شيء إلى زوال، وشتان ما بين وقت كان فيه الإنسان مقبلًا على الحياة
لا تسع طموحاته، وبين إدباره وإدارة ظهره لها آسفًا. وكثيرين منهم
يشتهون الموت، بعد أن ثقل عليهم هذا الجسد وهجرهم الأكثرين وتنكر
لهم أقرب الأقربين فأضجرتهم الوحدة. وحتى المباني الفخمة الشاهقة ما هي
إلا سنوات ثم تحتاج إلى ترميم وصيانة وإلى إزالة أحيانًا، وحتى
مشاعر الناس ليست ثابتة، والأموال غير مضمونة، الطقس غير ثابت،
الليل والنهار والزمن، وغيرها من شتي مظاهر الحياة وأدواتها، من
هذا فإن من يربط حياته بشيء من هذا فإنه يفني معها، ومن يربط حياته
بإنسان هنا فإنه يخاطر بمستقبله، "لاَ تَتَّكِلُوا عَلَى
الرُّؤَسَاءِ، وَلاَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَيْثُ لاَ خَلاَصَ
عِنْدَهُ، تَخْرُجُ رُوحُهُ فَيَعُودُ إِلَى تُرَابِهِ" (مز 146:
3 & 4)، كما
ذكرنا أيضًا هنا في
موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.
وأما الحكيم فهو
ذاك الذي يربط حياته بالمسيح فيضمن مصيره. ولعل هذه الفكرة هي التي
دفعت القديس أرسانيوس إلى ترك البلاط الملكي والاتجاه إلى
الإسقيط،
إذ قال أن كل ما نراه سوف يتلاشى مثلما ينحلّ المنام والأفضل
للإنسان أن يصنع خيرًا يجده قدامه، هكذا يؤكد
معلمنا بولس الرسول
"إِنْ كَانَ لَنَا فِي هذِهِ الْحَيَاةِ فَقَطْ رَجَاءٌ فِي
الْمَسِيحِ، فَإِنَّنَا أَشْقَى جَمِيعِ النَّاسِ" (1 كو 15: 19). إن العاقل هو من يشتري أبديته عن
طريق احتقاره لأباطيل العالم، وتخليه عن اللذات العابرة والشهوات
الوقتية، إذ بذلك يقتني له نصيبًا في المجد، بينما الجاهل هو ذاك
الذي يبيع أبديته بمثل هذه التفاهات، فأهداف بعض الناس عند
أقدامهم، والبعض الآخر على بُعد خطوات منه، وأما المجاهدون والذين
انفتحت أعينهم على الأبدية، هؤلاء جعلوا أهدافهم هناك في الأفق
البعيد. إن أخطر قضية في حياة الإنسان هي
أبديته، من أجلها يضحي بكل شيء وفي سبيلها يصنع أي شيء "لأَنَّهُ
مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ
وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ
نَفْسِهِ؟" (مت 16: 26) وهكذا يتجاوز الإنسان الخطيئة وزمنها ما
دام معنيًا بخلاصه مشغولًا بأبدتيه
والتي هي أبعد... من هذا يستثمر الإنسان الروحي هذا الزمان لكي
يكنز له كنزًا في السماء، وعن طريق تحويل كل ما هو بين يديه إلى
رصيد أبدي حيث لا يفسد سوس ولا يبلي صدأ (مت 6: 19 & 20) تمامًا
مثل إنسان يحول أمواله من بلد لآخر أكثر أمنًا، ولعل هذا المقصود بـ"مفتديين الْوَقْتَ" (أف 5: 16؛ كو 4: 5). يروي القديس يوحنا الدمشقي هذه القصة
الرائعة فيقول: كان لإحدى المدن عادة غريبة وهي أن
يبقى فيها الملك سنة واحدة، يُقبض عليه في نهايتها ثم يقيد ليُنفي
في جزيرة بعيدة، وذلك بعدما يلاقي الكثير من ألوان السخرية
والهوان. وبعد ذلك تُتَاح الفرصة لمن يود أن يكون ملكًا بعده دون قيد
أو شرط سوى تلك النهاية الحتمية التي لاقاها جميع الملوك السابقين،
ولعل الحكمة من ذلك كانت تحّسُب الحاكم جيدًا لتلك النهاية فيسلك
بحكمة وقناعة، غير أن جميع الأشخاص الذين تبوؤا ذلك العرش غفلوا
هذه الحقيقة إلى أن فوجئوا بأنفسهم في مواجهة معها. إلى أن جاء ملك جديد حكيم، فما أن
بدأ فترة ولايته حتى جعل كُلَ اهتمامه هو تحويل خيرات تلك المدينة
إلى هذه الجزيرة التي ينفي إليها الملوك عادة، فشيد القصور وغرس
الحدائق، وأقام مختلف المرافق، وما زال يعمل طوال العام حتى إذا أزف
اليوم المعين والذي يلاقي فيه الملوك مصيرهم، فإذا به يتحرَق شوقًا
إلى مغادرة مدينته إلى ذلك الفردوس الذي ينتظره. ولا شك أن القديس يوحنا الدمشقي كان
يقصد من وراء هذا التصوير البديع حال الناس هنا وعدم تحسبَهم
للنهاية الطبيعية للحياة الأرضية. ولعلَ الغني الموصوف بالغباء، لم
يفعل شيئًا يستحق عليه اللوم، غير أنه في المقابل لم يفعل شيئًا
يستحق عليه المكافأة، وهذا الغني في الواقع يمثل شريحة عريضة من
الناس، ليس داخل إطار الغني والمال فحسب، وإنما من حيث أن أمالهم
تنتهي عند القبر، وهم في ذلك مخطئون على مستويين، فإن الحياة لن
تنتهي عند القبر، وإنما هناك حياة أبدية، حيث سيُجازي كل شرير عن
شره بينما يكافأ كل بار عن جهاده، ولكن وحتى إن كانت الحياة تنتهي
كلية عند القبر، فلماذا لا ينتبهون لتلك الحقيقة، إن كانوا سوف
يتساوون في القبر مع بقية الناس فقراء مع أغنياء وعظماء مع مرذولين. لذلك يقول
القديس أمبروسيوس (إن أحضان الفقراء وبيوت
الأرامل وأفواه الأولاد (الأيتام) هي المخازن التي تبقى إلى الأبد)
وننتبه أنه لم تكن مصادفة أن يأتي حديث
السيد المسيح عن نهاية
العالم والدينونة عقب مشهد الأرملة وهي تلقي الفلسين في الخزانة
بالهيكل (الإصحاح 21 من إنجيل القديس لوقا) فزهد هذه الأرملة في
الحياة الحاضرة دفعها للتضحية بكل ما تملك، وقد كان في ذلك استثمار
منها لقليل مقابل حياة لا تفني، كذلك فإن الكعكة الصغيرة –التي
صنعتها أرملة صرفة صيدا
لإيليا النبي- قد أبقت على حياتها وحياة
ولدها (ملوك أول 17).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-macarious/eternal-life/now.html
تقصير الرابط:
tak.la/9w2r66p