في مثل الفعلة والكرم (متي 20: 1 - 16) نلاحظ أن صاحب الكرم أعطى جميع العاملين على مختلف مواعيد التحاقهم بالكرم دينارًا دينارًا، وإن كان هذا الأمر يشير في الأساس إلى عطية الخلاص التي وهبت للأمم والتي قبلت الإنجيل متأخرًا، إلا أنها تعني أيضًا أن جميع الأبرار سيوهبون الوجود في الحضرة الإلهية كأساس للمكافأة، أي التواجد الأبدي مع الله في ملكوته، ثم يتبقى بعد ذلك تمايُز النجوم والمنازل "فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ" (يوحنا 14: 2).
ولنعُد إلى التقليد وشهادة المؤرخين والتلمود في مقدمتها لنرسم صورة أرضية في محاولة لفهم هذا التنوع(1). فقد كان الهيكل هو نقطة تلاقي مع الشعب، وقد كان بحق -كما هي الكنيسة الآن- أيقونة الملكوت، ولعَل أكثر التشبيهات التي أستخدمها القديس يوحنا اللاهوتي في وصفه للملكوت –بحسب الرؤيا التي رآها في بطمس- هي في الواقع مقتبسة من الهيكل اليهودي في ذلك الوقت.
وفي زمن الفصح كان عدد اليهود الذين يتواجدون في أورشليم للاشتراك في الاحتفالات، يصل إلى ثلاثة ملايين إنسان، بينما تسع المدينة في العادة لمئتين وخمسون ألفًا فقط، ومن هنا فقد كانت الحاجة ماسة لإقامة المزيد من المباني والمساكن والخيام لاستيعاب الزائرين، وهكذا كان الفصح موسمًا سياحيًا هامًا بالنسبة للسكان، يؤجرون منازلهم وسطوحها ويؤجرون الخيام ويبنون النزل السياحية الصغيرة، وكانت المساكن السريعة التجهيز منتشرة بشكل ملفت في الطرق والساحات في ذلك الموسم الهام.
ومن ثم فقد قرر القائمون على الهيكل استغلال مساحة منه ليبنوا منازلًا لإقامة الوافدين، وقد تم بالفعل بناء شرائح مختلفة من تلك المنازل بما يتناسب مع الطبقات المختلفة، ما بين القصور الصغيرة والتي بنيت مقابل القدس مباشرة يعقبها مساكن فاخرة ومن خلفها مسكنًا أقل فخامة وهكذا حتى يصل الأمر إلى صفوف من الخيام بما يتناسب مع فقراء الزائرين، وبينما كان هؤلاء يتسابقون إلى الإقامة في الهيكل، فقد كان للأغنياء منهم ذوي الحيثية الفرصة للاستمتاع بأكبر قدر، من خلال السكني في المساكن الأولى في مواجهة القدس.
ويمكننا اعتبار "منازل" جمع "منزلة" وإن كان النص يعني فعلًا
Rooms or Houses، وذلك إذا أردنا تطبيق تعبير "منازل" على السكني السعيدة في الحياة الأبدية ومما يجدر به الذكر هنا أن تعبير" الْمَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ." الوارد في (لوقا 16: 9) يعني المسكن الأبدي، إذ كلمة مظلة تأتي في اللغة اليونانية "سكيني" ومنها جاءت الكلمات العربية سكن ومسكن ويسكن وهكذا... وعليه فإن المنازل الكثيرة التي أشار إليها السيد المسيح تعني درجة الاستمتاع أو المكافأة والتي ستختلف من شخص إلى آخر، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. إذ لا يمكن القول بأنه ستكون هناك مكافأة واحدة لكل من معلمنا بولس الرسول أو القديس أنطونيوس وشخص بالكاد جاهد فخلص والتحق بالموكب، وفي إشارة أخرى من السيد المسيح إلى هذا التمايز، قال: "مَنْ يَقْبَلُ نَبِيًّا بِاسْمِ نَبِيٍّ فَأَجْرَ نَبِيٍّ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَقْبَلُ بَارًّا بِاسْمِ بَارّ فَأَجْرَ بَارّ يَأْخُذُ، وَمَنْ سَقَى أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِاسْمِ تِلْمِيذٍ، فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ»" (مت 10: 41-42).وعندما أشار معلمنا بولس الرسول كذلك إلى مثل هذا الاختلاف، صرَح بأن "نَجْمًا يَمْتَازُ عَنْ نَجْمٍ فِي الْمَجْدِ" (1 كو 15: 41) والتعبير مُسْتَوحَى من الفضاء الممتلئ بالنجوم، فبينما توجد نجوم عادية كثيرة يلمع بينها البعض والبعض الآخر يظهر أقرب من الباقين، ومع ذلك فهم جميعًا في كبد السماء ينتمون إلى العلو، إن هذا يشبه الناجحين في امتحانات الثانوية العامة فإن الطالب الذي تفوق وحقق مئة في المئة يوضع في إطار واحد مع ذاك الذي حقق بالكاد درجة النجاح خمسون بالمئة، غير أن مكتب التنسيق سوف يقول كلمته! ولن يلتحقوا معًا بكلية واحدة، إذ أن هناك ما أصطلح عليه بكليات القمة، وكذلك درجة الامتياز التي يحصل عليها مجموعة من الدارسين فإنها تحتمل درجات متفاوتة فيما بين الحاصلين عليها.
هكذا فقد أنضم إلى الكنيسة أناسًا من كل نوع، بعضهم بأهداف رديئة وآخرين دون سبب معروف، والبعض بسبب الاضطهاد، ومع أن الجميع تضمَهم الكنيسة، إلًا أن هناك تمايزًا بين فريق وآخر.
يقول القديس يوحنا الدرجي: [وأناس خرجوا في موكب الملك، وأنا س دعاهم الملك، وأناس وجدوا موكب الملك فانضموا إليه. والعَبْرَة بالنهاية].
_____
(1) لا بد من الاستعانة بالرموز للإشارة إلى ما لا يستطاع التعبير عنه لا بالفكر ولا الخيال.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-macarious/eternal-life/homes.html
تقصير الرابط:
tak.la/549ppnk