والحقيقة أن الصوم في حد ذاته لم يكن هدفًا في حياة الآباء، ولكنه واحدًا من الوسائط التي تعينهم في الطريق إلى الله، وذلك بالطبع بالنسبة للأصوام الخاصة وليس الأصوام الثابتة في السنة الليتورجية والتي يلتزم بها الكل، سواء في العالم أو الأديرة. فبينما كان شخص ما يُعاقب بأن يُخضع لصوم خاص بأمر الآباء فإن آخرًا كان يعاقب بالمنع من الصوم! والهدف في الحالتين واحد، وهو علاج المجد الباطل أو الكبرياء، فقد تكبّر أحدهم بسبب نسكه، بينما ثقلت على الآخر أفكار النجاسة، فاحتاج أن يُخْضِع جسده وفكره (ويربط الآباء ما بين الكبرياء والشره والنجاسة).
في هذا يقول الآباء" الصوم يجعل الجسم يتضع" وتقول الأم سارة: "إننا نفضل الطاعة على النسك، لأن هذا يجلب الكبرياء وأمّا تلك فتجلب الاتضاع". وقد يصنع الإنسان كل شيء حتى ما يعد ثقيلًا عليه ما دام برغبته هو، إلا الطاعة! والتي فيها يقطع هواه ويحمل على مشيئة آخر.... ونقرأ عن القديس أثناسيوس الأجيوري (مؤسس رهبنة جبل أثوس في اليونان Όρος Άθως) أن أول أمر تلقّاه عند تقدمه للرهبنة، هو: اذبح هذا الخروف وكُله، فأطاع في الحال..!!!
وفي أطار الاتزان في التدبير الروحي يقول الآباء "الطريق الوسطي خلَّصت كثيرين" ولاسيما إذا كنا مبتدئين فنحن نعطي الجسد احتياجه، ولكن احتياجه فقط دون أكثر!! وقد نتجاوز هذا الحد قليلًا -في الأيام التي لا صوم فيها- ولكن ذلك أيضا يكون بقدر، ويمكن وضع علامتين لذلك، الأولى تمثل "الحد الأدنى" والذي يجب ألا نقلّ عنه في الصوم، مطيعين ذلك الصوت الإلهي " فانه لم يبغض أحد جسده قط بل يقوته ويربيه كما الرب أيضًا للكنيسة" (أف 29:5) والحد الأعلى الذي يجب ألاّ يتجاوزه في أيام الفطر، يلتزم فيه بقول الكتاب أيضا "أقمع جسدك وأستعبده" (1كو 27:9) وقليلًا قليلًا ومع التدرب ومع الإرشاد يقل احتياج الجسد من الطعام.
لعل هذا يناسب أكبر شريحة من الرهبان والراهبات أو المكرسات، فمنهم من يلتزم النسك الشديد -بالتنسيق مع مدبره الروحي بالطبع- ومنهم المتساهلون مع أنفسهم، أو قد يرى مدبروهم أن يخففوا عن أنفسهم في فترة ما في أطار التدبير الروحي العام لهم...
وفي سيرة القديس باخوميوس نقرأ أنه عندما كان مضطرًا للسفر لمدة طويلة طلب من الراهب المسئول عن المطبخ أن يهتم بالآباء حتى يعود، فلما عاد سأله عما فعله في غيابه، قال له أنه قرر أن يساعد الرهبان على حياة النسك وذلك من خلال إغلاق المطبخ ليتناولوا هم الخبز اليابس، بينما استغل هو وقته في عمل السلال حتى يوفر ثمنها للدير.
وهنا طلب إليه القديس أن يُحضر جميع ما صنعه من سلال ويجعلها كومة في ساحة الدير وكانت كبيرة جدًا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وعندئذ أمر القديس بضرب ناقوس الدير، فجاء على الفور جميع رهبان الدير فنظر القديس باخوميوس إلى السلال ثمّ إلى الراهب وقال له: لماذا أبطلت الثمرة الطبيعية للنسك؟ ثم أمر بإحراق جميع تلك السلال أمام الرهبان(1).
_____
يقصد القديس أن الراهب عندما يُقَدِّم إليه الطعام ثم يتخلّى عنه بإرادته، يكون بذلك قد أثمر ثمرة النسك، فهناك فرق بين الناسك والفقير.الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-macarious/asceticism/fasting.html
تقصير الرابط:
tak.la/sc69yk3