لقد حدد الرب يسوع الراعي الصالح الأمين معالم الرعاية لخرافه، ورسم الأسس التي يجب أن تتبع عند قيادة حملانه... والمتأمل في منهجه الرعوى يجده جامعأ يين مدخلين هامين بعتبران من أهم مداخل الخدمة الرعوية.. فهو لا يهتم بالجماهير العريضة، والألوف التي تصغي لعظاته فقط.. ولكنه يهتم أيضًا بالفرد الواحد الذي قدر ثمنه غاليًا، عندما سفك دمه الغالي على الصليب من أجله شخصيًا..
فالعمل الجماعي في الخدمة الرعوية أمر لازم، ومن هنا نشأت الليتورجيات والخدمات الشعبية والجماعية.. ولكن العمل الفردي لازم أيضأ وهام وخطير، وإهماله يهدد رعاية القطيع بالتشتت والتسيب والضياع.. وفي أمثلة السيد التي علم بها ما يبين تقديره المبارك للعمل الفردي، عندما ضرب مثلى الدرهم المفقود والخروف الضال.. ولم يكن الأمر عنده مجرد أمثلة وقصص تروي، بل واقع معاش نفذه في حياته المقدسة التي قضاها على أرضنا..
+ فاهتمامه الواضح بالسامرية عند البئر..
+ ولقاؤه المبارك المقصود بزكا العشار.
+ ودعوته المقدسة وإهترا مه بلاوى عند مكان الجباية..
+ ومقابلته شاول، وإشراقة قلبه بنور الإيمان، وهو في طريقه لينهش قطيع المسيح في دمشق..
+ وغير ذلك من أمثلة كثيرة لا تعد عن العمل الفردي الذي صنعه الرب، سواء ذكر في الكتاب وسطر في الإنحيل، أم أغفلته الكتب لأنها لا تسع ما صنعه إذ هو أكثر من الكثير... إنما هذه كلها تشرح لنا أهمية العمل الفردي في الخدمة الرعوية...
ونود في عجالة سريعة أن نضع أهم الأسس اللاهوتية والكنسية والنفسية، التي تحدد إطار هذا العمل العظيم، وتبرز قيمته الفريدة في الخدمة الدينية...
الإنسان حسبما علمنا الكتاب المقدس، مخلوق على صورة الله ومثاله، والله ذات وليس موضوع... فالإنسان بالضرورة ذات تبتغي، وليست موضوعًا يمكن تجاوزه.. وكل الأيديولوجيات التي تتجاوزه لتجعله مجرد وسيلة تفقد جوهره، وتحرفه عن وضعه اللاهوني الأصيل الذي من أجله خلق وكان...
فما معنى أن الإنسان Subject und not Object..
معناه أنه له قيمة في حد ذاته: في فرادته في شخصيته وكيانه بغض النظر عن الزمان والمكان وأحوالهما وضغوطها الأجتماعية والأقتصادية المؤثرة.. فالمسيحية تنظر إليه من خلال الكينونة وليس الملكية.. فأفق مسیحی يستوى مع أعظم غني، والكبير سنًا ومقامًا لا يزيد في الأهمية عن الصغير واليتيم والمحروم والمعوز.. فكل مؤمن إذًا مدعو لحياة الشركة مع الله: والكنيسة وعاء الإيمان تضم من كل جنس ولغة وثقافة وعمر متجاوزة الحواجز مبقية على أصالة الإيمان وحده.
وفي العاشر من إنجيل يوحنا، يوضح الراعى أنه على علاقة بكل حمل: ويدعو كلًا بإسمه أي بكيانه وشخصه الخاص.. على أنه كما أن الله في جوهره أقانيم متحدة بغير إنفصال، ومتمايزة بغير إنقسام، هكذا خلق الإنسان يحمل ذاتًا قادرة على الإلتحام والإتحاد مع الآخر، مع الفارق الكبير بين جوهر الله غير الموصوف وغير المدرك وغير المتناهي، وطبيعة الإنسان...
لأجل هذا يلزم أن يكون العمل الفردي في الخدمة الرعوية بعيدًا عن الفراغ وإنما في إطار الوحدة وحياة التركة... ومن هنا يحق لبرديف الوجودي المسيحي أن يقول: أن المسيحية تعرف الشخصية لا الفردية.. أي العضوية وليس الإنعزالية. فالأساس اللاهوتي يضع المعنى للعمل فعلى الراعى أن يجري وراء النفس الضالة، والخادم أن يسعى وراء الشخص الواحد، لا لأنه يريد زيادة الجماعة حجمًا، ولا لكي يستكمل لها مظهرًا ومنظرًا.. ولكن لأن هناك حتمية مسيحية لاهوتية، تدعو إلى الإهتمام بالواحد، مثل الإهتمام بالجماعة، وبالكيان الفريد مثل الإهتمام بالشمولية والقطاعات العريضة... أن الراعي الذي لا يعمل في ميدان الخدمة الفردية، يتجاهل أساسًا لاهوتيًا يبني على حجر زاوية العمل الرعوى المسيحي الأصيل.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ومن المنطلق اللاهوتي السابق الذكر، ينبع الأساس الكنسي للعمل: فالرب يسوع أسم كنيسته من خلال وحدة المؤمنين، المجتمعين في روح واحد وفكر وقلب واحد... والمتعمق لدارسة شخصية الكنيسة المسيحية، نجد أن هذه الوحدة الفريدة لا يمكن أن تتحقق، إلا إذا تلائمت الأعضاء في إنسجام وتآلف صمیمی وكياني عميق... أعطى الرب يسوع هذا مثال الكرمة والأغصان... وأعطاها بولس الرسول تشبيه الجسد والأعضاء... وكيف يمكن التحقق من سلامة الغصن المتحد والعضو الملتئم، إلا إذا كان قد فحص فحصًا دقيقًا، وعنيت الدراسة أنه من صميم كيان الجماعة ومتشرب فصيلة دمويتها، وغير غريب عن تكوينها وجوهرها... ولذا كان لا بُد للراعي من السعي نحو الواحد على قدر الطاقة والتأكد من مقاومة وسلامة كل شخص حتى إذا إستلم الواحد دوره كان كالوتر الحساس في الآلة يعزف نفس اللحن دون نشاز.. وكلما كان العمل الفردی ناجحًا.. كانت الكنيسة أكثر تماسكا، بل وتختفي الصراعات والتحزبات والمصالح الفردية، ولا يبقى في كيان الجماعة إلا ما يشد الأزر، ويحقق القصد: في تفان وبذل يثري الجماعة ويخصب شخصيتها...
إن دور الكاهن ودور الشماس ودور العلماني في الليتورجيا يعطي تأكيدًا أن الواحد لا يستغني عن الأخر، بل التكامل هو حصيلة خدمة وعمل الله في كل واحد على حدة.. والكنيسة في قدرتها على الحفاظ على كيان الشخصية في إطار وحدة الجماعة، لشهادة فريدة ضد روح العالم روح الأنانية...
عصرنا الذي نعيشه، هو عصر التجمعات المهولة والأعداد المتزايدة... هو عصر فيه ينظر الإنسان إلى نفسه، فيجدها نقطة في محيط، أو ترسًا في آلة ضخمة مهولة... هذا يصاب أحيانًا إما بصغر النفس، أو الإنعزالية، أو بالتسلط والرغبة في ركوب الموجات العالية...
والحضارة المعقدة والتخصصات العلمية الدقيقة، أفقدت الإنسان إلى حد ما إكتشافه لفرادته، ووعيه لدوره الخاص... ومن هنا يحيا وسط الألوف، وهو قطاع خاص مغلق: يصعب الإقتراب من داخله...
هدا تفسير كثرة العيادات النفسية والأمراض العصبية وصعوبة التكيف الإجتماعي والفشل في زيجات كثيرة..
وقد أكدت الدراسات النفسية حدة الفروق حتى أن التعميمات العلمية أصبحت لا تعطى الصورة الحقيقية لكل إنسان على حدة.. هذه الجوانب النفسية والإجتماعية، تحتم على الكنيسة العناية بالعمل الفردي والإهتمام بمشكلات كل واحد على حدة.. وعدم الإكتفاء بالعظات العامة وإنما الجلسات الخاصة، والاعترافات والمقابلات الهادفة، وعلاج الحالات غير الشائعة..
كل هذا لا يمكن تحقيقه، إلا من خلال العمل الفردي..
إضافة إلى هذا، فإن العمل الفردي يكشف لنا على المواهب النادرة، وأصحاب الوزنات الخاصة، والشخصيات النافعة التي يمنعها خجلها من الطفو على السطح.. والخادم الملهم يستطيع أن يجند بنعمة الله كل هذه الطاقات لخدمة الحظيرة كلها..
العمل الفردي يحتاج إلى صبر وإلى إتضاع وطول أناة وطوبي للخادم الذي وهب أن يجري وراء الواحد ويترك التسعة والتسعين إلى حين..
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-bimen/youth-service/solo-work.html
تقصير الرابط:
tak.la/f762p36