عبر المراحل الثلاث التي إجتازتها الرهبنة القبطية أو المصرية كانت ترتسم لها الخصائص والسمات التي تحدد معالم شخصيتها وكيانها وأدوارها في الكنيسة والحياة المسيحية وهذه الخصائص وتلك السمات هي التي تميز الرهبنة القبطية، وتعلن عنها في صفحات تاريخها الحي عبر هذه القرون الطويلة والتي إمتدت حتى اليوم، مؤكدة مدى الخصوصية التي لها والتأصيل الذي فيها، والعمق الذي بداخلها... ويمكن أن نجمل هذه في ثلاث سمات رئيسية هي:
1- تتسم الرهبنة القبطية بالبُعد "النسكي"، حيث حياة الزهد في كل شي من إرتباطات وإحتياجات جسدية مع التجرد من المقتنيات ومحبة الإقتناء وإختيار الفقر وممارسته فضلًا عن التقشف في المأكل والملبس وأسلوب الحياة داخل القلاية (حجرة الراهب)...
وهذا المنهج النسكي من أجل إنطلاق الروح الإنسانية في أفاق الروحانيات والسمائيات، وإكتساب الفضائل والسجايا الحسنة لتحقيق الجعالة العليا في الحياة الأخرى مع الله.
وهذا البعد النسكي عمل على تشكيل نفسية وشخصية الرهبان ما إنعكس في كثير من أعمالهم وأقوالهم وتعاليمهم، فأعطي صورة روحية عميقة مُعاشة لحياة الإنجيل والمسيحية.
2- كما تتسم الرهبنة القبطية بالبعد "التعليمي والثقافي" حيث يوجد الأب المعلم والمختبر والمرشد لأولاده في كل جوانب الحياة النسكية وإجتهاداتها وإحتياجاتها وهي ما تسمى بحياة التلمذة، والتي أثمرت التراث الآبائی من التعاليم والأقوال والمفاهيم التي تُساعد الإنسان المسيحي عامة والناسك القبطى خاصة على الحياة المسيحية كما أراد لها الإنجيل... وقد جذبت تعاليم آباء البرية الكثيرون من بلاد العالم للإستفادة منها ونقلها إلى المراكز الرهبانية في بلادهم... وكم تشهد المخطوطات القبطية والمنتشرة في أديرة مصر وفي أديرة العالم ومتاحفها ومكتاباتها عن هذا التراث الضخم وترجمة الكثير منه إلى اللغات العالمية وقد صدر منها المئات من المجلدات والكتب.
من ناحية أخرى نجد الأديرة القبطية كانت مركزًا للثقافة والتعليم حيث نجد المكتبات وما بها من كتب ومخطوطات - قام الرهبان بنسخها وتجليدها وحفظها في كافة العلوم والمجالات الثقافية، فضلا عن الدور التعليمي للشعب وتبصره على حياته روحيًا وإجتماعيًا ووطنيًا. وعلى سبيل المثال نذكر الدير الأبيض بسوهاج حيث أسس الأنبا شنوده رئيس المتوحدين نظامه الرهبانی كان مركزًا للثقافة القبطية آنذاك (القرن الخامس) فقد حرص الأنبا شنوده أن يكون جميع الرهبان من المتعلمين ويحثهم على دراسة الكتاب المقدس بعمق وحفظ أكبر قدر من أسفاره مع عمل الدراسات ونسخ الكتب والاهتمام بالمكتبة. كما كان يطلب من الراهبات تعليم الأُميين من الرهبان القراءة والكتابة. أضف إلى ذلك ريادته في فتح باب الدير للشعب القبطي في مساء السبت لسماع عظاته وتعاليمه...
أن الأنبا شنوده (السيرة هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت) كان كاتبا بارعًا له المقدرة في كتابة الموضوعات التي تمس حياة الناس ويقوم بتحليلها روحيًا وإجتماعيًا ووطنيًا. كما إليه يرجع الفضل في تهذيب اللغة القبطية من الآثار البيزنطية حيث غدت على يديه لغة وطنية سهلة وصالحة للكتابة والتعبير.
أضف إلى ذلك إهتمام الأديرة القبطية بالتأليف والترجمة لتعاليم الآباء ونصوص كتاباتهم الهامة والنشر لإحياء هذا التراث. فهناك العديد من الكتب الكنسية والآبائية والروحية التي كتبها ونشرها الرهبان الأقباط مما ساهم بشكل مباشر في صياغة الفكر القبطى وتدعيم المكتبة القبطية... ولاشك أن وجود المطابع في بعض الأديرة ساعد كثيرا في هذا الإنتاج الفكري وأضاف للرصيد الثقافي الكنسي(1).
وفي ضوء هذا الإهتمام التعليمي والثقافي، حافظ الرهبان الأقباط أيضا على إيمان الكنيسة وعقائدها وتعاليمها، بل وقد قامت أديرة وادي النطرون بالدور الذي كانت تقوم به مدرسة الأسكندرية اللاهوتية -بعد ضعفها في القرن السادس- في حفظ التعاليم الكنسية وكافة العلوم. وأيضا في تربية وإعداد وتلمذة الكثيرين من الآباء الرهبان الذين تولوا مسئوليات رعوية في العمل الكنسي.
3- وأيضًا تتسم الرهبنة القبطية بالبعد "التنموي إقتصاديًا واجتماعيًا" حيث حياة الشركة والتعاون والعمل بين الرهبان والنساك من جهة أو بين الأديرة كمؤسسات إجتماعية منتجة والشعب القبطى من جهة أخرى... فالعمل الجاد المستمر هو ركيزة نظام الشركة إلى جانب الحياة النسكة التعبدية التقوية. لذلك نجد في الأديرة العديد من الصناعات الصغيرة أو الحرف اليدوية... إلى جانب أعمال الزراعة التي امتدت إلى الأراضى الصحراوية التي حول الأديرة مع زراعة الكثير من الخضروات والفواكه وغيرها. كما أمكن إستخدام الهندسة الوراثية في تطوير الإنتاج الزراعي مثلما فعل دير الأنبا مقاريوس بوادى النطرون. وأيضا أعمال الإنتاج الحيواني، ونقل التكنولوجيا في سلالات الأبقار للحصول على إنتاج متميز لهذه الأنواع... أضف إلى ذلك كافة المنتجات الصناعية والغذائية والزراعية وتسويقها، كذلك الاهتمام بالنواحي الطبية والصحية بوجود العيادات الصغيرة للعلاج مع الأدوية المناسبة.
كما نذكر مراكز الصيانة والورش للسيارات والجرارات والآلات المستخدمة في كل هذه الأعمال... فضلا عن البناء والتشييد والترميم وتعبيد الطرق مع الإنارة والكهرباء وإستخدام المولدات الكهربائية وغيره...
وهذا النشاط التنموي الكبير ساعد على وجود المئات من العمال والفلاحين في الأديرة القبطية لمساعدة الآباء الرهبان وللعمل في كافة المجالات وهذا بالتالي إنعكس على خدمتهم الشخصية والأسرية ورعايتهم روحيًا وتعليميًا وإجتماعيًا ومهنيًا...
من ناحية أخرى نجد الأديرة تفتح أبوابها لإستقبال الشعب على مستوى الزيارات اليومية والرحلات أو إقامة الشباب بعض الأيام داخل أسوار الدير في خلوات روحية... وهذا الأمر تتطلب بناء أماكن الضيافة والمكتبات لشراء الكتب والهدايا وأيضا أماكن لبيع وتسويق المنتجات الغذائية والزراعية وغيرها. فضلا عن العلاقات مع الآباء الرهبان وتدعيم الشخصية الإجتماعية لكلًا من الأطراف هنا وهناك...
_____
(1) يساهم في هذا العمل الكنسى أيضا بعض المراكز الآبائية المتخصصة في ترجمة ونشر تراث الآباء وكتاباتهم مثل مركز القديس أنطونيوس للدراسات الآبائية. إلى جانب الإهتمام بالبعثات العلمية في جامعات أوروبا في ذات التخصص
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/amir-nasr/monasticism/characteristics.html
تقصير الرابط:
tak.la/6ztg8bs