(9) ماذا سنفعل إذن؟ ربما يسأل أحد ما. ماذا غير أن نكرِّس أنفسنا للاعتناء بالنفس، جاعلين كل وقت فراغنا خاليًا من الأشياء الأخرى. وبناء على ذلك لا ينبغي أن نكون عبيدًا للجسد، إلا ما هو للضرورة القصوى فقط. بل ينبغي أن نوفر كل الأمور الفضلى لنفوسنا، محررين إياها من خلال الفلسفة من الالتصاق بشهوات الجسد كما من سجنٍ، وفي نفس الوقت نجعل الجسد مثل سيدٍ على الشهوات، عندما نعطي البطن بما لا يمكنها الاستغناء عنه فقط، وليس الأطايب الشهية مثل الذين يبحثون في كل مكان عن أرفف الأطباق والطباخين، ويفتشون كل أرض وبحر، ويقدمون جزية إن جاز التعبير لسيد قاسٍ. هؤلاء يُرثى لهم بسبب نشاطهم غير المتوقف، ولا يتكبدون أي مثقال ذرة أخرى من الآلام المحتملة أكثر ممن يؤدبون في الجحيم بإجبارهم على تمشيط الصوف في النار، وإحضار الماء في غربال، أو صَبَّها في جرة مخرمة، باذلين الأتعاب التي لا تنتهي.[35]
وقضاء المرء لوقته أكثر من الضروري في العناية بالشعر أو اللباس هو بحسب قول ديوجنيس[36] علامة لأناس إمّا تعساء أو يفعلون الخطأ. وبالتالي لكي تكون أنيقًا وتحصل على اسم جدير بأن يعتبره الناس قد انحرف جدًا وصار في وضع شائن مثل من يرافق العاهرات أو يغوي نساء رجال آخرين. لأنه أي فرق يجب أن يحدث، على الأقل لإنسان عاقل، سواء ارتدى رداء ثمينًا أو ارتدى عباءة رخيصة لأحد العمال، طالما أن ما يلبسه يوفر له حماية كافية ضد برد الشتاء أو حرارة الصيف؟
وفي كل الأمور الأخرى بالمثل، لا يجدر بالمرء أن يتزين بتكلُّف أكثر ما تتطلبه الحاجة، ولا يكون شديد الاهتمام بالجسد أكثر مما هو خير للنفس. لأن نفس القدر من الملامة التي تقع على الرجل الذي يستحق فعلاً هذا اللقب، أن يكون أنيقًا ومدللاً للجسد بالمقارنة بأن يكون خسيسًا في أسلوبه نحو أي رذيلة أخرى. لأنه تحمُّل كل صنوف الآلام ليكون جسده أجمل ما يكون فهذا ليس علامة الرجل الذي يعرف نفسه أو يفهم الوصية الحكيمة التي تقول: ”ما يُرى ليس هو الإنسان، لكن هناك حاجة أعلى للحكمة التي ستمكِّن كل واحد منا، أيًا كان مَن هو، ليدرك ذاته“.[37] لكن إذا لم نطهر أذهاننا فهذا أمر أكثر استحالة علينا من أن يحدق في الشمس إنسان مريض العينين.
وبالتالي فتطهير النفس -الذي سأتحدث عنه بمصطلحات عامة وبشكل كاف لكي تفهموا- يتألف من احتقار الملذات التي تُثار بالحواس، في عدم تغذية العينين بالعروض السخيفة التي للمشعوزين، أو بمناظر الأجساد التي تعطي الحافز للمتعة الحسية، وفي عدم السماح للأغاني الخليعة بأن تدخل من خلال الأذنين وتفسد النفوس. لأن الشهوات التي تنشأ من عدم التربية والانحطاط تتولّد تلقائيًا بهذا النوع من الموسيقى. لكن ينبغي أن نستثمر في النوع الآخر، الأفضل والذي يقود إلى الأفضل، الذي من خلال استخدامه كما يقولون، فإن داود شاعر الترانيم المقدسة حرر الملك من جنونه.[38]
ويُحكى أن فيثاغورس أيضًا إذ تصادف ببعض المعربدين السكارى، فأمر عازف الناي الذي كان يقود العربدة ليغير نغمته ويلعب لهم اللحن الدوري. وهكذا عادت هذه الرفقة إلى رشدها تحت تأثير اللحن، بحيث مزقوا أكاليلهم وذهبوا إلى بيوتهم شاعرين بالخزي. لكن آخرين عند سماع صوت الناي يتصرفون مثل كوريبانتس ويتحمسون إلى درجة الهوس الباخوسي.[39] هذا هو الفارق بين الإصغاء إلى موسيقى نافعة وأخرى خليعة. وبالتالي لأن الأخيرة هي الرائجة الآن فينبغي أن تشاركوا فيها أقل من مشاركتكم في أحط الأمور. كذلك امتزاج الهواء من كل أنواع الأبخرة التي تجلب اللذة لحاسة الشم، أو تدليك الجسد بالعطور، فأنا أخجل أيضًا من النهي عنه.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وماذا يمكن المرء أن يقول عن أهمية عدم الاعتياد على اللذات المرتبطة بحاسة اللمس والتذوق أكثر من أن هذه اللذات تدفع الذين تكرسوا للسعي وراء العيش مثل الحيوانات إلى تركيز كل انتباههم على البطن والأعضاء التي أسفلها؟
لكن في كلمة واحدة ينبغي أن يحتقر الجسد بأكمله كل مَن أراد ألا يُدفن في ملذاته، كما في الطين. وإلا يجدر بنا أن نتمسك به فقط بقدر ما نحصل منه على خدمة من أجل السعي في طريق الحكمة، كما ينصح أفلاطون،[40] متحدثًا بطريقة مماثلة إلى حد ما بكلام بولس حين ينصحنا بألا نصنع تدبيرًا للجسد من أجل إثارة الشهوات.[41]
وإلا بأي طريقة يختلف هؤلاء، أي الذين يراعون كيف يكون الجسد في أفصل حال ممكن، لكنهم يغفلون النفس، التي عليها أن تستخدمه (الجسد)، كأنها بلا قيمة تمامًا، عن المهتمين جدًا بمعداتهم لكنهم يهملون المهنة التي تسخدم هذه المعدات من أجل عملها؟ ولذلك لا بُد أن نفعل العكس تمامًا -أي أن نقمع الجسد ونتحكم فيه كما نقيد الدابة الجامحة بعنفٍ، وبالضرب بالعقل كما بسوطٍ نقمع الاضطرابات التي تتولَّد بواسطته في النفس، ونهدئها لتنام، بدلاً من إرخاء كل لجام على اللذة، ثم يعاني الذهن من السقوط المتردي مثل قائد مركبة بأحصنة غير مكبوحة تركض منفلتة وصاخبة. ويجدر بنا أن نتذكر فيثاغورس الذي عندما أدرك أن أحد تلاميذه كان يزداد وزنه بالتدريبات والإفراط في الأكل قال له: ”ليتك تتوقف عن جعل سجنك أكثر بؤسًا لمعيشتك فيه!“.
لهذا السبب عينه فإن أفلاطون كما حُكي لنا إذ كان يتدبر التأثير الضار للجسد سكن متعمدًا منطقة الطاعون في أتيكا، أي الأكاديمية، لكيما يُنفى بعيدًا، كما يقلم المرء الكرمة من نموها المفرط، أي الرفاهية المفرطة لجسده. كما أنني سمعت بنفسي الأطباء يقولون إن الصحة الجيدة بإفراط شيء خطير أيضًا.
وبالتالي فإن مثل هذا الاهتمام المفرط بالجسد شي غير نافع للجسد نفسه، وليس هذا فحسب بل يمثل عائقًا للنفس، لأنها عندما تكون خاضعة للجسد وخادمة له، فهذا هو الجنون التام. غير أنه بالتأكيد إذا تدربنا على احتقار الجسد ينبغي أن نكون مبطئين كما يبدو لي في الشعور بالإعجاب بأي شيء يقتنيه الإنسان. لأننا لأي حدٍ سنذهب في توظيف الثروة إذا احتقرنا الملذات التي تنتج من خلال الجسد؟ بالنسبة لي لا أرى سوى أنها ستمدنا بنوع من المتعة لنظل مستيقظين ليلاً في حراسة الكنوز المدفونة مثل التنانين في الأسطورة!
ومع ذلك من المؤكد أن الرجل الذي تدرب على مراعاة هذه الخيرات كإنسان حر فإنه على الأرجح لن يختار أي شيء منحط أو مخزٍ بالكلام أو الفعل. لأن ما هو زائد عن الحد في أي احتياج، حتى إذا كان تراب الذهب الذي من ليديا،[42] أو ثروة النمل الجامع للذهب،[43] فإنه سيحتقر كل مزيد كلما قلت حاجته إليها. وبالطبع فإن ”الاحتياج“ ذاته سيحدده بناء على متطلبات الطبيعة وليس بناء على متطلبات اللذة.
لأن مَن يتجاوزون حدود الضرورة مثل الرجال الذين يهرولون في منحدر ولأنهم عاجزون عن الاستناد على أي شيء ثابت، يجدون من المستحيل أن يوقفوا في أي نقطة قوة نزولهم لأسفل. لكن كلما استجمعوا لأنفسهم ازدادت حاجتهم إلى قدر كبير أو أعظم لإشباع رغباتهم بحسب صولون ابن إكسيقستيدس الذي قال: ”لا يعرف البشر حدًا للثروة“. ويجدر بنا أن نستغل ثيوجنيس كمعلم عن هذه الأمور حين قال: ”لستُ شغوفًا بأن أكون غنيًا، ولا أصلي من أجل ذلك، لكن ليتني أعيش على الكفاف دون أن يصيبني أي شر“.[44] كما أنني معجب بسخرية ديوجنيس لكل الخيرات البشرية دون استثناء، إذ قال عن نفسه إنه أغنى من الملك العظيم بسبب حقيقة أنه كان يحتاج لأشياء أقل من أجل العيش مقارنة بالملك.[45] لكننا أهل هذا الزمان، قد يبدو لنا أن لا شيء يكفي إلا جميع ثروات بيثياس الذي من ميسيا،[46] والفدادين الكثيرة من الأرض، والقطعان التي تتجاوز العدد من الماشية. لكن في رأيي يجدر بنا ألا نشتاق للثورة إذا غابت، وإذا امتلكناها ينبغي ألا نتفاخر في نفوسنا بسبب اقتنائها بقدر معرفتنا بأنها توضع في استخدامات حسنة.
لأن قول سقراط فصيح. فهو عندما أبدى رجل ثري مفاخرة عظيمة بسبب ثرواته، قال إنه لم يُعجب به قبل أن يكتشف بالتجربة أنه أدرك كيف يستخدمها. أليس فيدياس وبوليكليتوس، أحدهما صنع تمثال زيوس لأهل إليوس والآخر صنع تمثال هيرا لأهل أرغوس، لو تفاخرا في نفسيهما بإفراط بسبب الذهب والعاج الذي في التمثالين، لكانا هدفين للاستهزاء بسبب التفاخر بثروة ليست ملكهما، متجاوزين الفن الذي مكنهما ليحولا الذهب إلى شيء أكثر إمتاعًا وثمنًا. لكن إذا افترضنا أن الفضيلة الإنسانية ليست كافية في ذاتها كزينة، فهل نتخيل أن ما نفعله يستحق خزيًا أقل مما كانا سيستحقانه؟ لكن هل علينا حقًا أن نحتقر الثروة ونزدري بالملذات الحسية، ومع ذلك نسعى إلى التملق والمداهنة، ونحاكي التحول والمكر اللذين لذئب أرخيلوخس؟[47]
على الجهة الأخرى، لا يوجد شيء لا بُد أن يمتنع عنه الرجل الحكيم بحرص شديد أكثر من العيش ونظره على الشهرة والتفكير بجدية في الأشياء التي تقدرها الجموع، بدلاً من جعل المنطق السليم مرشده في الحياة، بحيث حتى إذا خالف كل الناس، وفقد سمعته، وتكبد الخطر من أجل ما هو مكرَّم، فإنه لن يختار بأي حال أن ينحرف عما أدرك أنه صواب.
أو من أي وجه سنقول إن شخصًا ما لديه شخصية مضطربة يختلف عن المحتال المصري الذي كلما رغب أصبح نباتًا أو وحشًا مفترسًا أو نارًا أو ماءً، أو أي شيء آخر،[48] إذا كان في الحقيقة يمتدح العدالة مرةً حين يتواجد بين من يقدرون ذلك، لكن في مرة أخرى يأخذ الموقف العكسي حينما يرى أن الظلم يُحتفى به -مثلما يفعل المتملقون؟ ويقولون مثل الأخطبوط[49] الذي يغيّر لونه ليضاهي الأرض التي يقبع عليها، فإنه سيغير رأيه بحسب آراء الذين حولهم.
_____
[35] راجع محاورة جورجياس لأفلاطون 3: 493 ب.
[36] ديوجنيس من سينوب Diogenes of Sinope عاش بين (413- 323 ق. م.)، وهو أشهر أعلام الفلسفة الكلبية Cynicism وله قصة شهيرة أنه كان ينام في برميل، ويمشي بمصباح في وسط النهار، ورفض مقابلة الأسكندر الأكبر الذي سمع عنه، فذهب إليه الأسكندر وقال له أنا الأسكندر أطلب ما تشاء، فقال له وأنا ديوجين، أبعد عن وجهي فقد حجبت نور الشمس عني. ادعى بعض علماء سيمنار يسوع أن السيد المسيح كان فيلسوفًا كلبيًا، للمزيد اقرأ المقال التالي ”هل كان المسيح كلبيًا (cynic)؟ على الرابط التالي: (https://christopraxy.blogspot.com/2017/10/cynic.html).
[37] راجع محاورة فيدون لافلاطون 75، 115.
[38] قارن (1مل 16: 15- 23).
[39] قارن محاورة كريتون لأفلاطون 54 د.
[40] قارن كتاب الجمهورية لأفلاطون 6: 498 ب، ج.
[41] قارن (رو 13: 14).
[42] هيرودوت، التواريخ 1: 93.
[43] هيرودوت، التواريخ 3: 102.
[44] يشبه قول (سفر الأمثال 30: 8) ”لاَ تُعْطِنِي فَقْرًا وَلاَ غِنًى. أَطْعِمْنِي خُبْزَ فَرِيضَتِي“.
[45] Cf Dio Chrysostom, 6. 6.
[46] يذكر هيرودت إن بيثياس هذا اشتهر بأنه كان أغنى رجل في زمانه، وقد أخبر زركسيس بأنه يملك ألفين وزنة من الفضة و393 ألف من الدراهم الذهب، ناهيك عن المقتينات الأخرى (هيرودوت، التواريخ 7: 27).
[47] راجع كتاب الجمهورية لأفلاطون 356 ج، 5- 6.
[48] الإشارة هناإلى بروتيوس Proteus راجه هوميروس الأوديسة 4: 384- 386.
[49] في الترجمة الإنجليزية هي Polyp والأصح هي Polypus وهو الأخطبوط. وقد أشار القديس باسليوس في الهكساميرون العظة 7: 3 إلى الحبّار الذي يغير لونه ويصير مثل لون الصخر حتى يقف عليه السمك ويأكله. فعلى الأغلب يشير القديس باسليوس هنا إلى حيوان بحري وليس إلى الحرباء. (المترجم)
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/adel-zekri/basil-greek-literature/care.html
تقصير الرابط:
tak.la/ksk6r3z