(2) وإذا تأملنا الأماكن، أقول بثقة (وإن كنت أقول في خوف) إن الثالوث هو منفصل من جهة ما. عندما جاء يسوع إلى النهر، جاء من مكان إلى آخر، والحمامة نزلت من السماء إلى الأرض، أي من مكان لآخر، وصوت الآب نفسه صدر ليس من الأرض ولا من الماء، بل من السماء. هؤلاء الثلاثة منفصلون إن جاز التعبير في الأماكن، وفي الوظائف، وفي الأعمال. لكن قد يقول أحدهم لي: ”بيِّن لي بالأحرى أن الثالوث غير قابل للانفصال. تذكر أنك يا مَن تتكلم تنتمي للكنيسة الجامعة، وتتحدث إلى المنتمين للكنيسة الجامعة“. لأن هذا ما يعلمه إيماننا، أقصد الإيمان الجامع الصحيح والحقيقي، والذي جُمع ليس برأي حُكم خاص، وإنما بشهادة الكتب المقدسة، وليس عرضة لتقلبات التهور الهرطوقي، وإنما مؤسس على الحق الرسولي. هذا ما نعرفه، وهذا ما نؤمن به.
وهذا وإن كنا لا نراه بعيوننا، ولا بالقلب بعد، طالما كنا نتطهر بالإيمان، لكن بهذا الإيمان نتمسك بسهولة وباجتهاد شديد أن الآب والابن والروح القدس هم ثالوث غير قابل للانفصال. إله واحد وليس ثلاثة آلهة. ولكن هو إله واحد بحيث إن الابن ليس هو الآب، والآب ليس هو الابن، والروح القدس ليس الآب ولا الابن، لكنه روح الآب وروح الابن. هذه الألوهة غير الموصوفة، باقية دائمًا في ذاتها، وتجعل كل شيء جديدًا، وتخلق، وتجدد، وترسل، وتدعو، وتدين، وتخلص، وأقول إن هذا الثالوث نعلم أنه غير موصوف وغير قابل للانفصال في آن واحد.
(3) ماذا أريد أن أقول؟ انظروا: الابن تحديدًا جاء في الإنسان، والروح القدس تحديدًا نزل من السماء في شكل حمامة، وصوت الآب تحديدًا صدر من السماء ”هذَا هُوَ ابْني“. فأين إذن هذا الثالوث غير القابل للانفصال؟ لقد جعلكم الله منتبهين بواسطة كلامي. صلوا لأجلي، وافتحوا -إن جاز التعبير- ثنايا قلوبكم، وعسى أن يمنحكم الله بما يملأ قلوبكم المنفتحة. شاركوا معي تعبي. لأنكم ترون ما تعهدتُ به. وليس ما تعهدتُ به فقط، بل مَن أنا حتى أتعهد به، وعن أي شيء أود أن أتكلم، وأين وما هو موقفي، وأيضًا وأنا في هذا الجسد الفاسد الذي ”يُثَقِّلُ النَّفْسَ، وَالْمَسْكِنُ الأَرْضِيُّ يَخْفِضُ الْعَقْلَ الْكَثِيرَ الْهُمُومِ“ (حك 9: 15). ولذلك حينما أجرد ذهني من تعددية الأشياء، وأركزه على الإله الواحد، الثالوث غير المنفصل، كي أرى شيئًا أتكلم عنه، وبالنظر إلى هذا الجسد الذي ”يُثَقِّلُ النَّفْسَ“، (ولكي أحدثكم بشيء جدير بالموضوع) يتوجب عليّ أن أقول: ”إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَرْفَعُ نَفْسِي“ (مز 25: 1). ليت الله يعينني، ليته يرفعها معي. لأنني واهنٌ جدًا بالنسبة له، وهو بالنسبة لي قديرٌ جدًا.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
(4) الآن هذا سؤال يطرحه أكثر الأخوة الغيورين في مرات كثيرة، وكثيرًا ما يكون له موضع في أحاديث المحبين لكلمة الله. إلا أن هذا الطرق الشديد عادة ما يكون تجاه الله، بينما يطرح الناس أسئلة مثل: ”هل يفعل الآب أي شيء لا يفعله الابن؟ أو هل الابن يفعل أي شيء لا يفعله الآب؟“ دعونا نتحدث أولاً عن الآب والابن. ومتى يمنحنا مَن نقول له ”كُن لي معينًا... ولا تتركني“[3] نجاحًا جيدًا لمقالنا هذا، حينئذٍ سنفهم كيف أن الروح القدس أيضًا ليس منفصلاً بأي شكل عن عمل الآب والابن. وبالتالي أيها الأخوة بالنسبة للآب والابن انصتوا. هل الآب يفعل أي شيء بدون الابن؟ إجابتنا: لا؟ هل تشكون في هذا؟ لأنه ما الذي يفعله بدون الذي ”كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ“؟ فيقول الكتاب المقدس ”كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ“. وحتى تنطبع في ذهن البطيئين والقساة ومحبي الجدل أضاف ”وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ“ (يو 1: 3).
(5) ماذا بعد أيها الأخوة؟ ”كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ“. وبالتالي نفهم من هذا أن كل الخليقة التي صنعت بالابن، صنعها الآب بكلمته، أي الله، بقوته وحكمته.[4] هل سنقول بعد ذلك ”كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ“ حين خلق، لكن الآب لا يفعل كل شيء به؟ حاشا لله! لتبعُد هذه الفكرة عن قلوب المؤمنين. فلتُطرد عن ذهن العابدين، عن أفهام الأتقياء. لا يمكن أن يكون قد خلق به ولا يدبر به. حاشا لله أن ما يوجد يُدبر بدونه، بينما خُلقت به، حتى توجد!
لكن دعونا نبين بشهادة الكتاب المقدس ذاته أنه ليس فقط كل شيء قد خُلق وصُنع به كما اقتبسنا من الإنجيل ”كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ“ (يو 1: 3)، وإنما كل الأشياء التي صنعت به تُدبر وتُرتب بواسطته. أنتم تقرون إذن أن المسيح هو قوة وحكمة الله. وتقرون أيضًا ما يقال عن الحكمة ”إِنَّهَا تَبْلُغُ مِنْ غَايَةٍ إِلَى غَايَةٍ بِالْقُوَّةِ، وَتُدَبِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِالرِّفْقِ“ (حك 8: 1). فلا نشك أن كل الأشياء تُحكم بواسطته، وهو الذي به صُنعت كل الأشياء. وبالتالي فالآب لا يفعل شيئًا بدون الابن ولا الابن بدون الآب.
(6) لكن هناك صعوبة تواجهنا، وقد تكفلنا بحلها باسم الرب ومشيئته. إذا كان الآب لا يفعل شيئًا بدون الابن، ولا الابن بدون الآب، ألا يتبع ذلك أننا لا بُد أن نقول إن الآب قد ولد أيضًا من العذراء مريم، وقد تألم الآب على يد بيلاطس البنطي، وقام الآب ثانية وصعد إلى السماء؟ حاشا لله! نحن لا نقول بهذا، لأننا لا نؤمن بذلك. ”آمَنْتُ لِذلِكَ تَكَلَّمْتُ، نَحْنُ أَيْضًا نُؤْمِنُ وَلِذلِكَ نَتَكَلَّمُ أَيْضًا“ (2كو 4: 13). ماذا يتضمن قانون الإيمان؟ أن الابن ولد من عذراء، وليس الآب. ماذا يرد في قانون الإيمان؟ أن الابن تألم على يد بيلاطس البنطي ومات، وليس الآب. هل نسينا أن البعض نُعتوا بـ”مؤلمي الآب“ عندما أسأوا فهم هذا، وقالوا إن الآب نفسه قد ولد من امرأة، وأن الآب نفسه تألم، وأن الآب هو نفسه الابن، وهما اسمين فقط، وليس شيئين (كيانين)؟ وهؤلاء عزلتهم الكنيسة الجامعة عن جماعة القديسين، حتى لا يضلوا أي أحد، بل ليتجادلوا بعيدًا عنها.[5]
_____
[3] قارن (مز 26: 9) سبعينية.
[4] قارن (1كو 1: 24).
[5] نقرأ عن مؤلمي الآب Patripassianism عند ترتليان في (ضد براكسياس 1: 13، 16)، وكذلك القديس أثناسيوس في (بيان الإيمان 1): ”لا نعتقد بابن-آب كما يفعل السابليون، داعين إياه واحدًا (يعتقدون أن الابن هو الآب، والآب هو الابن)... ولا ننسب للآب الجسد القابل للألم الذي اتخذه (الابن) لأجل خلاص العالم كله“.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/adel-zekri/augustine-matthew-3-13/hypostases.html
تقصير الرابط:
tak.la/x27datr