الفصل (2)
(2) حاول بعض الهراطقة[4] أن يجعلوا الناس يؤمنون أن الله الآب ليس قادرًا على كل شيء (ضابط الكل).[5] لكنهم لم يكونوا متهورين ليقولوا هذا صراحةً، لكن تعليمهم يثبت اتهامهم باعتناق مثل هذا الرأي وهذه العقيدة. إنهم يؤكدون وجود طبيعة لم يخلقها الله القدير، ومنها خلق هذا العالم، الذي يقرون بأنه صُمم بشكل متناسق. لذلك يحملون إنكارهم للقدرة الإلهية الكلية إلى حد الاعتقاد بأنه كان عاجزًا عن صنع العالم إذا لم يستفد من طبيعة أخرى كانت موجودة سابقًا لم يخلقها هو. وهذا بالطبع ناتج عن اعتياد الإدراك الحسي الذي يراقب النجارين والبنائين وأصحاب الحرف من كل نوع الذين لا يقدرون على تفعيل مهارتهم بشكل كامل بدون الاستعانة بمادة موجودة بالفعل.
وبالتالي هم يفهمون أن صانع العالم ليس قادرًا على كل شيء إذا لم يكن قادرًا على أن يخلق العالم بدون الاستعانة بمادة ما لم يخلقها هو. لكن إذا سلَّموا بأن صانع العالم هو الله القادر على كل شيء، فإنهم مجبرون على الاعتراف بأنه خلق الأشياء التي صنعها من العدم. ولأنه قادر على كل شيء، فلا يمكن أن يوجد أي شيء في الوجود لم يكن له خالقًا.
وحتى إذا صنع الله شيئًا من شيء آخر، مثلما خلق الإنسان من الطين، فبالتأكيد لم يخلقه من شيء لم يخلقه هو بنفسه، لأن الله خلق من العدم التراب الذي أتى منه الطين. وإذا كان قد صنع السموات نفسها والأرض، أي العالم وكل ما فيه، من مادة ما (لأنه مكتوب ”صَنَعَت الْعَالَمَ مِنْ مَادَّةٍ غير منظورة“ وفي بعض النسخ ”غَيْرِ مُصَوَّرَةٍ“ (حك 11: 18))، فلا يصح أن نفترض للحظة واحدة أن هذه المادة، حتى وإن كانت غير مصوَّرة أو غير مرئية أو كيفما وجدت، يمكن أن يكون لها وجود من ذاتها، كما لو كانت مساوية لله في الأزلية ومعادلة له. لكن بصرف النظر عن كيفية وجود هذه المادة، فتمكينها من الوجود واكتساب صورة واقع متمايز فهذا حصلت عليه من الله القادر على كل شيء وحده، الذي كل موجود- مصوَّر أو غير مصوَّر- مدين بوجوده للجود الإلهي. لكن يوجد فرق بين ما هو مصوَّر وما هو غير مصوَّر. الموجود المصور له صورة بالفعل، بينما الموجود غير المصور هو قادر على اكتساب صورة.[6] لكن الذي يهب الموجودات صورتها هو نفسه الله الذي يودع فيها أيضًا القدرة على اكتساب صورة؛ لأن منه وفيه الصورة غير المتغيرة، التي هي أرقى صورة على الإطلاق. وبالتالي فهو وحده الذي يغدق على كل موجود ليس فقط بكمال الجمال، وإنما أيضًا بالقدرة على أن يصير جميلاً.
وبناء على ذلك نحن على صواب كامل في اعتقادنا بأن الله خلق العالم من العدم، لأنه حتى إذا صُنع العالم من مادة ما، فإن هذه المادة قد خلقت هي أيضًا من العدم. وبالتالي وجدت أولاً المقدرة على اكتساب الصور، ثم أعطيت الصورة لهذه الموجودات بينما كانت تتشكل، بحسب جود الله المحكم التنظيم. أكدنا هذا بحيث لا يظن أي أحد أن أقوال الكتاب المقدس تتناقض فيما بينها، لأنه مكتوب أن الله خلق العالم من لاشيء وكذلك مكتوب أن العالم صُنع من مادة غير مصورة.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
(3) ولذلك إذ نؤمن بالله الآب ضابط الكل، نحن مجبرون بالتمسك بأنه لا يوجد مخلوق في الوجود لم يخلقه ضابط الكل. ولأنه خلق كل شيء بالكلمة، فهذا الكلمة يُدعى أيضًا الحق،[7] وقوة الله وحكمته.[8] وهو الذي يُشار إليه بأسماء أخرى عديدة مثل ”محررنا وحاكمنا“، و”ابن الله“ مما يتفق مع عقيدتنا في الرب يسوع المسيح . لأن مَن صنع كل الموجودات به كان وحده قادرًا على أن يلد هذه الكلمة التي منها جبل كل الأشياء.
_____
[4] يتضح اهتمام القديس أغسطينوس هنا في وقت تأليف هذا العمل بالهرطقة المانوية، كما يتضح ذلك في مواضع أخرى من هذا العمل. ظهرت المانوية في بلاد فارس في منتصف القرن الثالث وانتشرت بسرعة كبيرة حتى صار لها معاقل حصينة في أرجاء الأمبراطورية الرومانية. تبنت المانوية ثنائية ميتافيزيقية بمعنى وجود مبدئين أزليين للوجود متعارضين فيما بينهما، النور والظلمة. أما سبب وجود هذا العالم الحاضر من وجهة نظر المانوية هو تحرير جزئيات النور التي فقدت أثناء الصراع مع عناصر الظلمة المعادية. وحتى يتمم ملك النور هذه خطته هذا، كان عليه أن يستفيد هو نفسه من عناصر الظلمة، وهذه الاعتمادية لا يمكن أن تتسق مع فكرة الألوهة كلية القدرة وغير المتأثرة بالشر.
[5] الكلمة اليونانية الواردة في قانون الإيمان هي Παντοκράτορα بانتوكراتور، والتي نترجمها في العربية ”ضابط الكل“ لكن الترجمات الإنجليزية التي رجعت لها تترجمها Almighty القدير، أو omnipotent كلي القدرة. (المترجم)
[6] هذا التمييز الذي يشرحه القديس أغسطينوس بين الوجود المكتمل (formatum) والمبدأ غير المكتمل (formabile) يشير إلى عقيدة فلسفية أرسطية سابقة للمسيحية هي عقيدة الهيالومورفية Hylomorphism وهي مصطلح مكون من كلمتين Hyle بمعنى هيولى أو مادة، وform أو صورة. لكن القديس أغسطينوس يؤكد على أن ظهور المادة الأولية التي صُنع منها العالم هي عمل مباشر للخلق الإلهي، كما يرفض في عمله ”التفسير الحرفي لسفر التكوين“ (De Genesi ad literam, 1. 15. 29) أي أسبقية زمنية لهذه المادة الأولية، مؤكدًا على أن عمل الخلق ينجز جانبي الوجود (المادة والصورة) بالتزامن.
[7] قارن (يو 14: 6).
[8] قارن (1كو 1: 24).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/adel-zekri/augustine-faith/pantocrator.html
تقصير الرابط:
tak.la/vmj38n4