(16) بعد التحدث عن الولادة الإلهية لربنا والتدبير البشري وقبولهما بالإيمان، نضيف بعد ذلك الإيمان بالروح القدس، بحيث نكمل ما نؤمن به من جهة الله. الروح القدس ليس أدنى في طبيعته من الآب والابن، لكنه مساوٍ في الجوهر ومساوٍ في الأزلية. لأن هذا الثالوث هو الله الواحد. هذا لا يعني أن الآب هو نفسه أقنوم الابن والروح القدس. بل يعني بالأحرى أن الآب هو الآب، والابن هو الابن، والروح القدس هو الروح القدس، وأن هذا الثالوث هو الله الواحد، كما هو مكتوب ”اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ“ (تث 6: 4).
 |
لكن إذا سُئلنا عن الأقانيم تحديدًا وقال لنا أحدهم: ”هل الآب هو الله؟“ سنجيب هو الله. وإذا سأل: هل الابن هو الله، سنجيب نعم هو. وإذا طُرح سؤالاً مشابهًا عن الروح القدس، سيكون علينا أن نجيب بأنه ليس سوى الله. لا بُد أن نكون حذرين جدًا ولا نفهم مصطلح ”الله“ بالمعنى الذي يقال عن البشر: ”إِنَّكُمْ آلِهَةٌ“ (مز 82: 6). لأنه لا يعتبرون آلهة بالطبيعة وهم الذين خُلقوا وجُبلوا بواسطة الآب من خلال الابن وبسخاء الروح القدس.[31] لأنه إلى الثالوث ذاته يشير الرسول حين يقول: ”لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ“ (رو 11: 36). وبالتالي بينما نجيب بأن كل أقنوم هو الله في الإجابة على السؤال حول الأقانيم تحديدًا -سواء الآب أو الابن أو الروح القدس، فلا ينبغي لأحد أن يفترض أننا نعبد ثلاثة آلهة.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
(17) ليس مستغربًا أن كلمات مثل هذه تقال عن الطبيعة غير الموصوفة. فإنه يحدث شيء قريب من هذا حتى في حالة تلك الأشياء التي نراها بعيوننا الجسدية ونميزها بالإدراك الحسي. عندما نُسأل عن نبعٍ، ربما لا نقول إنه النهر ذاته. وإذا سُئلنا عن نهر، ربما لا نصفه بالنبع. مرة أخرى ربما لا نشير إلى ماء الشرب الآتية من النبع أو النهر باعتبارها نبعًا أو نهرًا. ومع ذلك إذا سُئلنا بشكل منفصل عن هذه الأشياء الثلاثة، فإننا نجيب في كل مرة على أنها ماء. وإذا سألتُ هل الشيء الذي في النبع هو الماء، سيجاب نعم هو الماء. وإذا سألت هل الشيء الذي في النهر هو الماء، فالإجابة لن تكون مختلفة. ولن يكون ممكنًا لأي جواب آخر في حالة ماء الشرب. ومع ذلك نحن لا نقول بوجود ”ثلاثة ماءات“ بل ”ماء واحد“.[32]
بالطبع لا بُد أن نحرص على ألا يتخيّل أحد الطبيعة غير الموصوفة للجلال الإلهي على أنها مثل نبع أو نهر أو كأس مادي منظور. لأن الماء الذي يوجد مرة في النبع لا يبقى هناك بل يتدفق إلى النهر، وعندما يؤخذ ماء من نبع أو نهر فإنه لا يبقى في نفس المكان الذي أُخذ منه. بهذه الطريقة من الممكن للماء أن ينتمي بالتتابع إلى النبع ثم النهر ثم أناء الشرب.
لكننا ذكرنا أنه في الثالوث من المستحيل أن يكون الآب هو الابن في وقت ما، أو أن الابن يكون هو الآب في أي وقت. لأنه كما في حالة الشجرة، الجذر وحده هو الجذر، والجذع ليس شيئًا آخر غير الجذع، والأغصان فقط هي التي يجوز أن تُسمى أغصانًا. فالشيء الذي يُدعى ”جذرًا“ لا يجوز أن يسمى ”جذعًا“ أو ”أغصانًا“. ومن غير الممكن أيضًا لخشب الجذر أن ينتقل بطريقة ما ليوجد مرة في الجذر، ثم في الجذع ومرة أخرى في الأغصان. لكن بالأحرى لا يمكنه أن يوجد إلا في الجذر فقط، برغم أن قاعدة استخدام المصطلح لا تزال منطبقة: الجذر هو ”خشب“، والجذع هو ”خشب“، والأغصان هي ”خشب“. ومع ذلك نحن لا نتحدث عن ”ثلاثة خشبان“ بل ”خشب واحد“.
إذا أظهرت هذه الأمثلة درجة من عدم التماثل بسبب وجود تباين في سُمك الخشب بحيث يبرر حديثنا عن ”ثلاثة خشبان“، فإن ما يلي على الأقل سيسلم به الجميع: إذا امتلأت ثلاثة كؤوس من نفس النبع الواحد، يجوز أن نتحدث عن ثلاثة كؤوس، ولا يجوز أن نتحدث عن ”ثلاثة ماءات“ بل عن ”ماء واحد“ فقط. لكن إذا سُئل عن الكؤوس تحديدًا، يجوز أن نجيب بأن الماء موجود في أي واحد منهم، حتى إذا لم يوجد مثل هذا الانتقال للماء من النبع إلى النهر الذي ذكرنا في السابق.
هذه الأمثلة التوضيحية المادية قدمناها ليس بسبب وجود تطابق مع الطبيعة الإلهية، وإنما بسبب ”الوحدانية“ التي نستطيع أن نميزها حتى في الموجودات الحسية. بهذه الطريقة نقدر أن نرى كيف لأي ثلاثة أشياء، أيًا كانت هذه الأشياء، يمكن أن تحمل اسمًا واحدًا، ليس فقط كوحدات منفصلة، بل عندما تُجمع معًا أيضًا. ولا ينبغي لأحد أن يظن أنه من الغرابة أو العبث أن ندعو الآب ”الله“، والابن ”الله“، والروح القدس ”الله“، لكننا لا نقول إن هناك ثلاثة آلهة في الثالوث ولكن يوجد جوهر واحد.
_____
[31] هذه الصيغة قريبة الشبه بما اعتاد عليه آباء آخرون أن يقولوا إن كل شيء هو ”بواسطة الآب بالابن في الروح القدس“. (المترجم)
[32] نفس الفكرة قال بها القديس غريغوريوس النيسي في رسالته إلى أبلابيوس التي تحمل عنوان ”ليسوا ثلاثة آلهة“ On Not Three Gods حيث يقول إن هناك عملات أو قطع ذهبية عديدة many gold pieces، لكن ليس هناك أذهاب/ ذهوب/ ذهبان عديدة many golds بل ذهبٌ واحد. هذا قد يشير إلى اطلاع القديس أغسطينوس على مؤلفات النيسي. (المترجم)
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/adel-zekri/augustine-faith/holy-trinity.html
تقصير الرابط:
tak.la/2qm4dsb
