أعدت الكنيسة القبطية ريبيرتوار Repertory لكل مناسبة من مناسباتها الطقسية والليتورجية، لكى ما تجعل برامجها التسبيحية فعالة ومؤثرة ومتنوعة ومتكاملة، ومتغيرة رغم تحركها داخل إطار تقليدى ثابت. وهذا التنوع كان لا بُد منه إذ أن طقوس وألحان بعض المناسبات يصل زمنها إلى أكثر من عشرة ساعات متصلة، مثل طقس يوم الجمعة العظيمة الذي فيه يتسمر الشعب القبطى من الصباح الباكر للمساء المتأخر في سياحة لحنية متواصلة حول هذا الذي سُمِر على خشبة من أجله، دون أن يتسلل إليه الملل أو حتى مجرد الرغبة في أن يبرح الكنيسة المزينة بالورد والمعبأة بالأطياب والحنوط. ومن أجل تحقيق هذا قامت الكنيسة بعمل:-
تنوع في أزمنة الألحان في تعاقبها حتى أننا نجد ألحانا أو مردات قصيرة زمنها لا يتجاوز الخمسة ثوانى بينما هناك ألحان زمنها يصل إلى أكثر من ثلاثين دقيقة. وقد حرصت الكنيسة القبطية أن تتفاوت أزمنة الألحان المتعاقبة بشكلا مدروسا، فجعلت المرد القصير يعقبه لحنا طويلا وهكذا، وإن كانت المردات القصيرة تأتي كتوطئة للحن بمعنى "إنتبهوا" أو كتقديم للخورس.
والأمثلة على ذلك كثيرة، فنجد مثلا أن مردًا قصيرًا مثل "ⲡ̀ⲣⲟⲥ ⲭⲱⲙⲉⲛ" يعقبه لحنًا طويلًا مركبًا مثل "ⲡ̀ⲟ̅ⲥ̅ ⲫ̀ϯ" ومردًا طويلًا مثل " ⲁⲥⲡⲁⲍⲉⲥⲑⲉ الكبير " يعقبه لحنا قصيرا مثل " ϩⲓⲧⲉⲛ ⲛⲓⲡ̀ⲣⲉⲥⲃⲓⲁ " الذي يقال بعد صلاة الصلح بالقداس الإلهى. فهذا التنوع في أزمنة الألحان يمنع حدوث أى ملل ويساعد على تركيز أذهان المصليين ويساهم يشكل فعال في إحداث توازن سمعى.
كذلك قامت بعمل تنوع في سرعات وإيقاعات الألحان المتعاقبة، فاللحن السريع عادة ما يعقبه لحنا رزينا Adagio واللحن البسيط الإيقاع يعقبه لحن مركب الإيقاعات. وبالرغم من بساطة التركيبات الإيقاعية في الألحان القبطية، إلا أنه أمكن التنوع في إستخدامها بفاعلية، كوسيلة للتعبير عن معاني روحية ولجذب إنتباه المؤمنين الحضور.
وبالرغم من أن الموسيقى الشرقية - المحيطة بالكنيسة القبطية - ذاخرة بأنواع من الضروب والأوزان الإيقاعية المركبة التي يصل عددها إلى نحو (48) منها المدور والمحجر والمصمودى الكبير والنوخت والدور هندى...،... الخ إلا أنه بالرغم من ذلك، إستطاعت الكنيسة القبطية ببساطة إيقاعاتها أن تجذب أنظار العالم كله نحو موسيقاها، إذ راعت أن يكون هناك تنوعا في الإيقاعات، الذي أحيانا يكون داخل اللحن الواحد. ولعل أشهر لحن به تنوع في الإيقاع بالرغم من صغر زمنه (مدته دقيقة واحدة) هو لحن "ϩⲓⲧⲉⲛ ⲛⲓⲡ̀ⲣⲉⲥⲃⲓⲁ"، إلا أن هناك العديد من الألحان بها هذا التنوع يذكر منها "ⲏ̀ⲁⲅⲁⲡⲏ، ⲡⲓⲡ̀ⲩⲉⲩⲙⲁ، ⲟⲛⲧⲟⲥ.
كما قامت بعمل تنوع بين أساليب الأداء للألحان، فاللحن الفردى يليه لحنًا جماعيًا، واللحن الذي يردده خورسي الشمامسة البحري والقبلي في مقابلة أنتيفونية يعقبه لحنًا فرديًا ثم مردًا تجاوبيًا بالأسلوب الريسبونسوريالي وهكذا.
وقامت أيضًا بعمل تنوع في أسلوب الصياغة، فاللحن الذي يغلب عليه طابع الميليسما Melisma يعقبه لحن بأسلوب الدمج Syllabic، واللحن الذي تم صياغته من قالب، يكون الذي يليه من قالب آخر. فقد حرص أباء الكنيسة على ان تختلف طبيعة الألحان المتعاقبة من حيث الميلسما والدمج وهذا يبدو واضحا جليا خاصة في تسبحة نصف الليل، حيث يرنم كل "الهوس الأول" بلحن مدمج، يليه "لبش الهوس الأول" بلحن به أسلوب الميليسما، ثم يعقبه "الهوس الثانى" بلحن مدمج يليه" لبش الهوس الثانى "بلحن به ميليسما وهكذا. إن مراعاة ذلك يمنع أية فرصة لشرود الذهن أو لتسرب روح الملل بالرغم من الساعات التسبيحية الطويلة التي لا تعتمد على الإبهار الموسيقى سواء الإيقاعى أو اللحنى خاصة أنه لا يوجد أية آلات موسيقية مصاحبة.
كذلك إستخدمت وتجولت بين باقة متنوعة من المقامات المصرية القديمة وأجناسها المختلفة التي عددها يفوق المائة، هذا يخلق جوا متجددا من الألحان. وقد راعت الكنيسة القبطية وهي تضع ريبيرتوار ألحانها أن تتنوع فيه المقامات الموسيقية، وهناك أسلوبان لتنوع المقامات في ألحان الكنيسة القبطية:-
- تنوع المقامات داخل اللحن الواحد وذلك من خلال التحولات المقامية في صياغة الجملة الموسيقية بالإعتماد على براعة المؤلف الموسيقى وحرفيته، ذلك كما هو واضح في العديد من الألحان، مثل لحن ⲡ̀ⲟⲩⲣⲟ الفرايحى في جملة ⲥⲉⲙⲛⲓ ⲛⲁⲛ، ولحن ⲁⲣⲓϩⲟⲩⲟ̀ϭⲁⲥϥ في جملة "ϩⲟⲩⲟ̀ϭⲁⲥϥ"، ولحن كاتا ني خورس عند "evereyalin" وعند إعادة مقدمة اللحن في آخره عندما يتم التحول إلى نفس مقام اللحن مرفوعا نصف درجة لاعلى.
- ثبوت المقام داخل الصلوات الواحدة (مثل دورة الحمل- الأواشى – صلاة الصلح....) مع تغيرها في الصلوات التي تليها. لذا نجد أن دورة الحمل مثلا يغلب عليها الطابع المقامى الذي يسمى "صبا" في حين صلوات المجمع يغلب عليها الطابع المقامى المسمى "عجم"
لذا إقترح بعض الباحثين في الموسيقى القبطية أن يتم إعادة تسمية هذه المقامات بعد دراسة المناطق التسبيحية التي تقع فيها هذه المقامات. فمثلا يتم إعادة تسمية مقام الصبا بإسم "ⲡⲓϩⲓⲏⲃ" نظرا لأن مقام الصبا يقع في منطقة التسبيح الخاصة بدورة الحمل وهكذا، على أن لا يتم إعادة التسمية قبل دراسة مقامات جميع الألحان والمناطق التسبيحية التي تقال فيها حتى تعكس هذه الأسماء الجديدة طبيعة الصلوات التي ترنم فيها هذه الألحان، والهدف من وراء إعادة التسمية هو الآتى:-
- أنه من المفضل أن تكون أسماء المقامات الخاصة بالألحان القبطية هي أسماء قبطية وليست فارسية، إذ ليس من اللائق أن يُطلق إسم "حجاز" وإسم "عراق" على مقامات وأجناس قبطية، وكأنه قد فرغت اللغة القبطية من الأسماء.
- إن تسمية المقامات والاجناس بأسماء قبطية لها مدلول ومعنى مرتبط باللحن، سيكون له دور في تعميق الصلة بين المعلومات الموسيقية والتأثيرات الروحية.
- قيام فريق من الباحثين بهذه الدراسة سيكون له عظيم الأثر في إثراء العلوم الموسيقية بما سيتم إكتشافه من طبيعة هذه المقامات والمناسبات التي تقال فيها.
أيضًا حددت الكنيسة القبطية دورًا فَعَّالًا لآلتي الناقوس والمثلث لتحقيق التوازن السمعى ما بين لحنًا يتم مصاحبته بهما بينما الذي يليه تصمتان فيه. وأداء الألحان بالناقوس والمثلث يحدث بهجة لها مذاق يختلف عنها عند عدم إستخدامه. مما لا شك فيه أن المصاحبة الآلية عادة ما يكون لها دور فعال في إحداث تنوع سمعى. ولعل الأعمال الأوركسترالية التي تنفذ بأوركسترا كبير، يصل عدد عازفيه إلى نحو مائة وعشرين عازف، يتجلى فيها هذا التنوع السمعى. فآلة "البيكولو" الصغيرة الحادة التي تحلق بالنغمات في أعلى السموات تعطى طابعا مختلفا تماما عن ألة "الفلوت" الشفافة العذبة، وآلة "الأبوا" بصوتها الريفى الأصيل الأخنف عندما تعزف منفردة، تختلف بدورها عن آلة الكلارينيت، وهكذا باقي آلات النفخ الخشبية والتي تختلف بدورها عن رفيقتها آلات النفخ النحاسية التي تعطى كل منها طابعا مختلفا وفي جملتها تعطى إحساسا بالقوة والعظمة والشموخ والإنتصار. إلا أن هذه الآلات التي ينفخ فيها جميعا تختلف عن تلك الوترية التي يعزف عليها بالقوس (عائلة الفيولينة) والتي لها أكثر من ثلاثة عشر أسلوبا للعزف عليها لتعطى أحاسيسا مختلفة عن آلات النبر الوترية، مع الآلات الإيقاعية العديدة. لكن المصاحبة الآلية في الكنيسة القبطية قد قصرت المصاحبة جميعها على آلتين إيقاعيتين وحيدتين هما "الناقوس" و"المثلث" فقط لا غير، وتستخدما فقط في الألحان الإيقاعية الموزونة وليس جميعها بل قصرت ذلك على الألحان المفرحة منها فقط. إلا أن تأثير هاتين الآلتين البسيطتين أعمق بكثير من الأوركسترا السابق ذكره حتى أن بعض المسئولين في الكنيسة القبطية كانوا يفضلون إقصاء هذه الألات حتى خارج الليتورجيا ليكون للألحان القبطية هذا الطابع الـ"أكابيللى" إذ أنهم يستمتعون بهذه الالحان دون مصاحبة آلية بالمرة. بل أن هناك الكثير من الأجانب من مختلف الدول كان يستهويهم المصاحبة بآلتي الناقوس والمثلث عن باقي المصاحبات الأخرى لباقى الآلات.
← انظر مقالات وكتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وبالتفكر في الأمر، نجد أن الألحان القبطية بطابعها الـ"أكابيللي" المميز صار لها وقعا وقورا نبيلا جادا ممتلئ خشوعا، جعلها منفردة عن سائر الألحان التي يمكن سماعها خارجا عن صحن الكنيسة. ولما صار بين الفينة والأخرى يتدخل كل من الناقوس والمثلث لعمل تغيير ولإحداث تأثير معين مؤقت، ولإشاعة روح البهجة وحتى لا يظن الناس أن الكنيسة القبطية لها طابع حزين - إذ أنها ليست كذلك[77]، وعندما يتم هذا العزف المقنن من هاتين الآلتين يحدث تأثير قوى وتغيير في الطابع والجو المحيط لا يتناسب مع حجمهما.
· جعلت للحركة أثناء أداء الألحان داخل الكنيسة القبطية دور عميق الأثر. فدوران الأسقف والكهنة وهم يحملون المجامر الذهبية يتصاعد منها البخور، ومعهم الشمامسة يحملون الشموع والأيقونات، والصلبان معلق بها الشارات وهم يدورون حول البيعة ثلاثة مرات وسط الشعب يرنمون بصوت واحد "كيرياليسون" يا رب إرحم وغيرها من الألحان التي تخص المناسبة، هذا له تأثيره الروحى والنفسى المتجدد والذي بدونه يكون الأمر مختلفًا بالتمام.
كذلك أداء لحن "تين هوس إيروك" (نسبحك نباركك... ونسجد لك) والشمامسة ساجدون يعطى إحساسا بالخشوع والمهابة والإنسحاق أكثر من أداء نفس اللحن وهم واقفون. وأداء لحن "آمين تون ثاتاتون" ومعناه "بموتك نبشر.. ونتضرع إليك" والشعب رافعا يديه إلى فوق متضرعا وأقدامه أوشكت أن تترك الأرض إلى فوق، له تأثيرا أقوى من ترنيمه ويديه إلى أسفل.
· كما جعلت للملابس الكهنوتية دورًا هامًا في تلوين الجو العام المصاحب لأداء الألحان القبطية. فمثلا بعد الإنتهاء من رفع بخور باكر يبدأ قداس الموعوظين بلحن البركة "تين أوأوشت" الذي في أثنائه يقوم الكهنة بتغيير ملابس النسك السوداء ليرتدوا التونية البيضاء رمز الطهارة والنقاء والنور وكذلك الشمامسة، فيكون لحن البركة أكثر لمعانا إذ تنضح عليه الملابس البيضاء فيصطبغ أداؤه بلونها المبهج.
· إستخدمت جرس الكنيسة الذي له وقع غير عادى في النفس عند تقديم الحمل مع التسبيح بـ"كيرياليسون" بلحنه البسيط من مقام الصبا لتعطى إحساسا فياضا بالدعوة للخلاص ووقع نغماته العذبة العميقة مع نغمات اللحن يكون له تأثير في جذب البعيدين إلى داخل الكنيسة.
· أيضاُ جعلت الكنيسة القبطية كل الفنون تتلاقى معا أثناء أداء الألحان، الفن التشكيلى متمثلا في الأيقونات التي تزين الكنيسة، والمعمارى المتمثل في القباب والأعمدة، والإضاءة المتمثلة في الشموع، والديكور المتمثل في المشغولات الخشبية بالحجاب والستور، وتتصاعد ذبيحة الألحان وسط كل ذلك فيكون لها بُعدًا روحيًا عاليًا.
لذا لا يمكن أن يحدث ملل لمن يحضر هذه الريبيرتورات على مدار السنة الطقسية مهما طال زمن كلٍ منها.
_____
[77] ثبت بالتحليل لألحان الكنيسة القبطية التي تتلى على مدار السنة أن ستة في المائة من ألحان الكنيسة لها طابع حزين والباقى له طابع مفرح (يوجد بيان مرفق يوضح ذلك في رسالة ماجستير لكاتب المقال –مرجع سابق- ص 9).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/george-kyrillos/musicality-coptic-hymns/repertory.html
تقصير الرابط:
tak.la/9v72q83