يتم أداء الألحان القبطية من خلال أربعة أساليب مختلفة أوجدتها الكنيسة المصرية القديمة بما يتماشَى مع النصوص الكتابية وتعاليم الرسل من جهة ولخلق نوع من الحوار التسبيحى بين الشعب والأكليروس وخورس الشمامسة من جهة أخرى، ولتركيز أذهان المؤمنين المستمعين لهذه الألحان حتى لا يتسرب إليهم روح الملل بسبب الأداء ذي الوتيرة الواحدة Monotony في حال التسبيح بأسلوب واحد طوال الطقوس التي زمنها يمتد لساعات طوال. في كلٍ من هذه الأساليب يكون هناك دور المُعلم في القيادة مختلف، ومن هذه الأساليب:
- التسبيح في خورسين
- التسبيح التجاوبي بالمرد
- التسبيح بصوت جماعي واحد
- التسبيح الفردي
ويعرف بالـ"أنتيفونا" Antiphonal Singing "، وهي طريقة التسبيح بين خورسين إحداهما قبلي والآخر بحري وكل واحد يرد على الآخر. وقد احتار العلماء في أصل دخول الأنتيفونا في الكنيسة، فبعضهم قال إن بطرس الرسول رآها في رؤيا، وآخرون قالوا إن هذا الأسلوب أُدخل إلى كنيسة أنطاكية عن طريق القديس "أغناطيوس الثيؤفورس" في القرن الأول للميلاد، نقلًا عن نظام العبادة في مجامع اليهود. وأنه انتقل من أنطاكية (أي من سوريا) إلى فلسطين ثم إلى مصر.
وتُروى قصة عند القديس "أغناطيوس" أنه رأى في رؤياه الملائكة ينشدون بالتبادل ترانيم للثالوث الأقدس، وهذا يتوافق تمامًا مع ما جاء بأشعياء النبي: "السيرافيم واقفون فوقه لكل واحد ستة أجنحة، باثنين يغطى وجهه وباثنين يغطى رجليه وباثنين يطير. وهذا نادى ذاك وقال قدوس[72]".
والحقيقة أن أسلوب التسبيح في خورسين هو طقس قديم جدًا في الهيكل ومعمول به منذ أيام "عزرا" و"نحميا".. إذ يقول الكتاب:
"وعند تدشين سور أورشليم طلبوا اللاويين من جميع أماكنهم ليأتوا بهم إلى أورشليم لكي يدشنوا بفرح وبحمد وغناء بالصنوج والرباب والعيدان. وأقمت فرقتين عظيمتين من الحمَّادين ووَكَبَت الواحدة يمينًا والفرقة الثانية من الحمادين وَكَبَت مقابلهم فوقف الفرقتان من الحمادين في بيت الله وغنى المغنون."[73] (نحميا 12: 27-42).
ويعتقد أن الترجمة القبطية للمزامير مأخوذة عن النسخة العبرية المسماة بالماسورية Massoretic"، التي كان يستخدمها يهود الإسكندرية النسّاك قبل تحوّلهم إلى المسيحية، وأنه عنهم استلم الأقباط طريقة الترنيم بالأنتيفونا "Antiphona " أي المجاوبة الصوتية.
وفي الكتاب الذي وضعه العلامة "فيلو" اليهودى يصف فيه حياة الكنيسة الأولى في الإسكندرية وكل مصر، وهي لا تزال في صبغتها اليهودية الأولى (45-55م)، يذكر أن هؤلاء النساك كانوا يستخدمون طريقة الأنتيفونا في تسبيحهم الليلي[74]، وهكذا انتقلت الأنتيفونا كطقس خدمة إلهية من هؤلاء النساك إلى الكنيسة، وقد أخذت الكنائس اللاتينية هذه الطريقة في التسبيح عن كنيستنا.
وقد رتبت الكنيسة القبطية أنتيفونا وتسبيحًا مشابهًا يتمثل في خورس داخل الهيكل، وخورس خارج الهيكل في عيد القيامة مرتبًا على (المزمور 24) "افتحوا أيها الملوك أبوابكم"، إستمرارًا للتقليد.
وكذلك في صلاة الساعة الثانية عشر من يوم الجمعة العظيمة، بعد أن يُفتح باب الهيكل علامة المصالحة بين السمائيين والأرضيين، يبدأ الحوار بين مجموعة الشمامسة الذين في الهيكل من داخل والذين هم خارج الهيكل فيجاوبون بعضهم البعض قائلين "ثوك تيه تيجوم" فهى صورة للأنتيفونا يجسدها طقس الكنيسة.
ويذكر كل من إنجيل "مرقس" و"متى" أن الجماعة التي خرجت لاستقبال السيد المسيح عند دخوله مدينة أورشاليم، قسّمت نفسها إلى خورس يمشى أمام المسيح وخورس يمشى وراءه:- "والجموع الذين تقدموا والذين تبعوا كانوا يصرخون (الواحد قبالة الآخر) أوصنا لإبن داود مبارك الآتى باسم الرب" (مت 21: 9).
والقديس "باسيليوس" أيضا في الخطاب رقم 207 إلى كهنة قيصرية يؤكد أهمية الأنتيفونا قائلًا:
"يذهب الشعب إلى بيت الصلاة في الليل في دموع متواصلة يعترفون أمام الله وأخيرًا ينتقلون من الصلاة ليبدأوا بتسبيح المزامير وذلك بأن ينقسموا أولًا إلى فريقين ليرددوا التسابيح مقابل بعضهما وبعد ذلك يسلمون مطلع اللحن إلى واحد وبقية الجماعة ترد".
ويقف المعلم عادة على رأس الخورس البحرى، لكي يتمكن من القيادة فيعطى إشارات بيده اليمنى وبتعبيرات وجهه حيث يبدأ الخورس البحرى بالتسبيح بقيادته ثم يرابعه (أي يرنم الربع أو الاستيخون الذي يليه) الخورس القبلى الذي يقف أيضا على رأسه رئيس شمامسة او شماس يُعتمد عليه في توحيد الخورس القبلي إلا أن المعلم لا يزال هو القائد الأوحد لكلا الخورسين. والألحان التي تُنشد في خورسين لها طبيعة خاصة:
· فهى تحتوى على إنتقالات مقامية أحيانا ما تكون شديدة التعقيد، وتحتاج إلى قدرة عالية في ضبط النغمات.
· تحتوى على تغيرات ايقاعية وتغيرات في السرعة تحتاج إلى تحكم في ميزان وضرب وسرعة اللحن.
· لها قوالب موسيقية مركبة.
· تتميز بأسلوب الميليسما الذي أحيانا ما تكون كثافتة عالية جدًا.
لذا فدور المُعلم هنا يكون حيوى ورئيسى وفعال.
كتبت بعض كتب التاريخ الموسيقى والمراجع العلمية مؤكدةً أن الغناء التجاوبى أو الترددى أسلوب عُرف في القرن الرابع عشر مأخوذًا عن الكنيسة القبطية القديمة، حيث كان يرد الكورس أو جماعة المصليين على العريف "المغنى المنفرد"، وقد أدى هذا الأسلوب إلى ظهور نوع المغنى البارع الفيرتيوز" Virtuose[75]".وهذا يؤكد أن أداء العريف كان رائعًا معبرًا حتى أن الذين هم من خارج الكنيسة كانوا ينبهرون ويتأثرون من عذب ودقة أدائه. لقد كان يتلو العريف أرباعًا بينما ينصت الشعب ثم يجاوبون عليه في كل آخر ربع بمرد ثابت.
ويُحكى عن القديس "أثناسيوس الرسولى" بأنه كان يوصى الشماس بأن يرنم المزمور وأن يجاوب الشعب عليه قائلين: "لأن إلى الأبد رحمته"، أى أنه أوصاهم بإنشاد الهوس الثانى (المزمور 136) بنظام الترنيم المنفرد والمجاوبة بالمرد. ودوّن "فيلو" بصفة خاصة سهرات الليل التي كانوا يمارسونها بمناسبة العيد العظيم والترانيم التي إعتادوا تلاوتها، مبينًا كيف أنه عندما كان الواحد يرنم في الوقت المحدد،كان الآخرون يصغون في صمت ولا يشتركون في الترانيم إلا في آخرها[76].
والقديس "باسيليوس" أيضًا في نفس الخطاب رقم 207، بعد أن يشرح كيف أنهم ينقسمون إلى فريقين ليرددوا التسابيح مقابل بعضهم يقول:
"وبعد ذلك يسلمون مطلع اللحن إلى واحد وبقية الجماعة ترد".
وما يجدر الإشارة إليه، أن الكنيسة المصرية القديمة أوجدت هذا الأسلوب لأسباب عديدة:
· مشاركة الشعب بالتسبيح من خلال مرد صغير يسهل على الجميع غناءه مثل آمين، هلليلويا، كيرياليسون..... إلخ.)
· التأكد من تجاوب الشعب وتركيزه في العبادة.
· عدم انفصال الشعب عن الليتورجيا في فترات التسبيح الفردى، وإذا انفصل يرده المرد.
ويتقلص دور القائد في قيادة الخورس القبلى والبحرى والشعب إذ أنهم يشتركون معًا في المرد، بينما تُترك الحرية للمرنم المنفرد في أدائه لحين الوصول إلى المرد، لذلك فالمعلم يومئ برأسه ليعطى الإشارة بالبدء للجميع ويبدأ بالغناء في التوقيت المناسب ويبدأ معه الخورسين القبلى والبحرى وكل الشعب.
والمرد التجاوبي يتميز بأن:
· زمنه لا يتعدي عشر ثوانى.
· عدد موازيره لايتعدى ثلاث مازورات (يعتبر كأنه خلية موسيقية Theme)
· ليس به ميليسما على الإطلاق فهو عادة بأسلوب الدمج السيلاباتى.
· ليست به أى تغيرات ايقاعية
· ليست به تغيرات في السرعة
· ميزانه الموسيقى بسيط
لذلك فهو يختلف عن الأسلوب التقابلي الأنتيفونالى وعن الأسلوب الجماعى في طبيعة صياغته.
← انظر مقالات وكتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
مثل جميع المردات التي يرنم بها الشعب كله ويذكرها كتاب الخولاجي (الذي يحوي القداس الإلهي بترتيباته وألحانه ومرداته) مشيرًا إليها بعبارة "يقول الشعب". وعادة ما تكون طلبات بلجاجة وقوة مثل لحن "آمين طون ثاناتون" الذي يتعهد فيه كل الشعب بأن يبشر بموت المسيح وبقيامته المقدسة، كذلك لحن "إريبو إسمو إثؤواب" ولحن "أوس بيرين" كما أنه هناك ألحانًا كثيرة للشعب لها نغمات أطول قليلًا وربما يكون لها إيقاعات مركبة ولكنها بكل المقاييس هي ابسط من ألحان الشمامسة، فطبيعة هذه الألحان يمكن توصيفها بأنها:
· أبسط من الناحية الموسيقية، فعادةً لا يتخللها إنتقالات مقامية او تغيرات ايقاعية معقدة.
· عادة ما لا تتغير السرعة خلال اللحن إلا قليلا (كما في لحن هيتينى برسفيا)
· زمنها لا يتعدى الدقيقة الواحدة، ليسهل حفظها.
· تتميز بالأسلوب السيلاباتى "الدمج"، فالميليسما تزيد من صعوبة حفظ الألحان. كذلك فهى تختلف في طبيعتها عن هذه التي يرنم بها الشعب في الأسلوب التجاوبى، فهى تمثل مرحلة أكثر قوة من حيث مشاركة الشعب في الليتورجيا، حيث أن زمن اللحن في الأسلوب التجاوبى لا يتعدى ثوانى معدودة، وبالتالى فهو أكثر بساطة من الناحية الموسيقية، وبالتالى فهو أيسر حفظًا.
ويؤكد القديس "باسيليوس" في الرسالة (207) ضرورة التسبيح الجماعى قائلًا: "يرفع الجميع معًا مزمور الإعتراف للرب كما بصوت واحد وقلب واحد". وعلي القائد (المُعلم) توحيد أداء اللحن هذه الألحان الجماعية لكل من الشمامسة (الخورس القبلى والخورس البحرى) وجميع أفراد الشعب من خلال توحيد النبض Beat وتوحيد التنفس وتوحيد الفكر وتوحيد الأحاسيس كل ذلك بأبسط الإشارات والأيماءات معتمدًا على تعبيرات الوجه Facial Expression.
إن التسبيح الفردى في الكنيسة هو أسلوب تتميز به الكنيسة القبطية، فجميع ما يصلى به الكاهن أو الأسقف هو شكل من أشكال التسبيح الفردى، وعندما يقوم الشماس بقراءة لحن مقدمة البولس (نسبة الي القديس بولس الرسول) أو الكاثوليكون* أو الإبركسيس+، أو ليطرح المزمور باللحن في القداس، أو عندما يتلوه باللحن الإدريبى في أسبوع الآلام، كل هذه هي من أشكال التسبيح الفردى.
وللكنيسة القبطية مفهوم هام جدًا بهذا الخصوص، فهى تشترط ألا يكون "التسبيح المنفرد" سببًا في الزهو بالذات بسبب طراوة صوت المسبح المنفرد، بل يجب أن يكون إعلانًا عن "حب منفرد" لصاحب ذلك الصوت فيه يقطع عهدًا مع الله أنه يحبه أكثر من الكل.
ويؤكد القديس "يوحنا ذهبى الفم" في تفسيره للمزمور 42 (مز 42) – على ذلك قائلًا:-
"إذًا فلا تظن أنك جئت إلى ههنا لمجرد أن تقول كلمات، بل إنك عندما تقول المرد فاعتبر ذلك المرد عهدًا لأنه عندما تقول: "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه تشتاق نفسى إليك يا الله" فإنك تقطع عهدًا مع الله، أنك توقع إتفاقًا بدون حبر أو ورق، لقد اعترفت بصوتك أنك تحبه أكثر من الكل، أنك لا تفضل عليه شيئًا، أنك تلتهب بمحبته". وفي هذا الأسلوب الفردي يكون دور المعلم مقتصرًا على المتابعة من بُعد للمرنم المنفرد حتى إذا ما أخطأ أدركه بخفة وبسرعة بما لايؤثر على التسبيح.
_____
[72] الكتاب المقدس – العهد القديم – سفر أشعياء الأصحاح السادس (إش 6: 1)
[73] الكتاب المقدس – سفر نحميا الأصحاح 12 آيات من 27 الي 42
[74] الأب متى المسكين - مرجع سابق – ص 87 و88
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/george-kyrillos/musicality-coptic-hymns/performance.html
تقصير الرابط:
tak.la/gbs22fg