كتبت الموسوعة القبطية: "لأن رجال الدين والإكليروس لم يكونوا موهوبين على قدم المساواة مع المغنيين، لذا أصبح وظل التقليد أن يُعهد لأداء الموسيقى لمرتل محترف يسمى بالعربية "عريف"(أي الذي يَعْرِف) أو "مُعلم" (الذي يُعَلِمْ). وهو الذي يعمل ويتدرب على يد الكنيسة ليكون مسئولًا عن التسليم الصحيح للألحان والمردات في كافة الخدمات، وهو عادة ما يكون أعمى بسبب الاعتقاد الشعبي الذي يرجع للزمن القديم أن حساسية البصر نُقلت من أعين الشخص الأعمى إلى أذنيه، وهذا الانتقال له قدرة على تعزيز المهارات الموسيقية. ومن المتوقع أن يتواجد في الكنيسة لأداء وترتيل جميع الطقوس في أوقاتها المناسبة، وبالتالي يتم ضمان معيشته.
والمُعلم هو ليس عضوًا من بين الرتب الكهنوتية التي يتم رسامتها، إلا أنه في أوقاتٍ مضت كان من المعتاد أن تُتْلى صلوات من أجل تعيينه مرتلًا في الكنيسة. وهذه الصلاة التي تمنح الشخص المناسب أن يكون مرتلًا هي: أيها السيد الرب القادر على كل شيء، هذا عبدك الذي يقف أمامك، وقد أسرع إلى كنيستك المقدسة الجامعة الرسولية، فلتنر له ليعرف كيف يؤدي كلماتك المقدسة، ويرتل لك بفهم الألحان الروحية"[60].
ولا يُعرف سوي القليل عن المرتلين قبل عام 1850 ومع ذلك ففي ذلك الوقت، أصبح واضحا أن الموسيقى والنص قد تم أداؤهما بشكل غير صحيح في كثير من الأحيان من مرتلين غير مدربين أو غير عابئين. مما جعل البطريرك كيرلس الرابع (1853-1861)، يشعر بالقلق إزاء هذا الوضع، فجعل تدريب المرتلين مسألة ذات أهمية قصوى للكنيسة، ورأى أن المتخصصين المتدربين ذوي المهارات العالية في ترنيم الطقوس، ويمكن أن يساعد في حل المشكلة، وبمثل هذا المتخصص المحترف يمكن تعليم الآخرين وبالتالي يكون مسؤولًا عن تحسين الموسيقى.
وبوضع هذا في الاعتبار، وجد قداسة البابا شابًا أعمى كان يدرس في المدرسة المجاورة للكنيسة البطريركية للقديس مرقس، وأدرك أن له موهبة مع صوت عذب وأذن دقيقة، فعينه ليكون مدرسا للألحان. في وقت لاحق، تم سيامة هذا المعلم شماسًا، وسميّ فيما بعد أبونا تكلا[61].
وكجزء من مهمته، صحح أبونا تكلا نطق اللغة القبطية مطالبًا بالنطق المناسب والتسليم الصحيح للألحان. وفي عام 1859 بأمر من البابا كيرلس الرابع أصدر الطبعة الأولى من كتاب "خدمات الشماس" بمساعدة الشماس "عريان جرجس مفتاح" معلم القبطية في الكلية البطريركية.
أيضا بتوجيه من البابا، أبونا تكلا أورد فيها أربعة ألحان يونانية وترجمها للقبطية، وهي التي ترتل لليوم في عيدي الميلاد والقيامة. وقد حافظوا على ألحانها اليونانية وتم تصنيفها كيونانية[62]. علاوة على ذلك، رتل أبونا تكلا تراتيلًا قبطية من مؤلفاته الخاصة في منازل الأسر المعلقة، وبسبب أغنية وطنية قام بتأليفها وتقديمها للخديوي تم منحه لقب البكوية.
وقد كان لأبونا تكلا سبعة طلاب الذين كان يسلمهم وينقل إليهم علمه ومهاراته. من بين هؤلاء اثنان من المرنمين هم أبونا مرقص من مطاي، والمعلم أرمانيوس. وفي الجيل التالي كان واحدا من الطلاب أعمى وهو المعلم جرجس البتانوني الذي كان يتميز بصوت واضح جدًا وذاكرة خارقة.
في شبابه، تم إرساله لزيارة كنائس في العديد من المدن المصرية للتعلم وجمع التراتيل. فقد كان المعلم المخلص في معهد القديس ديديموس، وهو الذي اختاره راغب مفتاح ليرتل للعالم الموسيقى الإنجليزي، إرنست نيولاند سميث، الذي خلال الفترة من (1928-1936) قام بتدوين النوتة الموسيقية لقداس القديس باسيليوس كاملة والعديد من ألحان المخصصة للميلاد والصوم الكبير، وبالتالي أصبح المعلم ميخائيل الوسيلة التي من خلالها تم الحفاظ على العديد من الكنوز العظيمة من الألحان القبطية من خلال التدوين الموسيقي. وفي عام 1957 توفى عن عمر يناهز خمسة وسبعين عامًا.
أن المعلمين والشمامسة الذين درسوا على يد المعلم ميخائيل، أمثال المعلم توفيق يوسف بدير المحرّق والمعلم صادق عطا الله، والدكتور يوسف منصور، وغيرهم الكثير في كنائس القاهرة والمحافظات، هؤلاء يُعتَرف بهم باعتبارهم خبراء في الخدمات الليتورجية والتسليم الصحيح للألحان. كما أنهم ساعدوا في تسجيلات الليتورجيا في المقر الذي أعده راغب مفتاح لذلك.
ومن المعروف أن قدماء المصريين كانوا يُفَضِّلون أن يكون المغنّون من مكفوفي البصر، وأنهم كانوا يضعون أيديهم على وجناتهم أثناء الأداء. ومن هنا جاءت فكرة الكنيسة القبطية للاستعانة بالـ"العرفان" أو "المرتلين" Cantors مكفوفي البصر في تسليم وتسلم هذه الألحان، وذلك لتمتعهم بذاكرة قوية وقدرة شديدة على التركيز وإمكانياتهم الفائقة في تخيّل النغمات والأشكال الإيقاعية والتي أطلقوا عليها مصطلح "الهزّات".
وقد كان يتم اختيار المرتلين Cantors بعناية من حيث القدرة على الأداء الصوتي السليم للنغمات والأشكال الإيقاعية. وظل حتى الآن لكل كنيسة مرتل خاص بها تكون مهمته الأساسية – إلى جوار الترتيل في القداسات والتسبحة والصلوات المختلفة – أن يتولى تسليم الألحان،" تحفيظها" لمجموعات من الشمامسة يصطفّون في خورسين أثناء القداسات والتسابيح المختلفة، خورس بحري وخورس قبلي، ويقف "المعلم" على رأس المجموعة التي تقف في الجهة البحرية، ليقوم بدور القائد أو"Maestro" الذي بإشارات دقيقة بيده، يحدد السرعة المناسبة للحن، والطبقة الصوتية التي منها يبدأ الترنيم، وكذلك مواضع البدايات والنهايات للألحان[63]. ويقوم المرتل بالعزف على آلة الناقوس لضبط الإيقاع.
← انظر مقالات وكتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وعن الإشارات التي يقوم بها المرتلون بأيديهم عند قيادة هذه الألحان يقول "راغب مفتاح"[64]:
"ثبت من واقع الصور التي وجدت على الآثار المصرية القديمة، أن الحركات التي يجريها بيديه المعلم "ميخائيل البتانونى" عند ترديده الألحان القبطية تشبه كثيرًا ذات الحركات التي كان يؤديها المرتلون والموسيقيون في مصر الفرعونية". وكتب عادل كامل[65] "لقد أوردنا صورة لكبير مرتلي الكنيسة المرقسية وأستاذ الجيل في الألحان الكنسية المعلم الراحل ميخائيل البتانوني أثناء أدائه لبعض حركات وإشارات إيقاعية Cironomie مطابقة تماما لما كان يؤديه سلفه من الدولة القديمة والواضح على جدران مقبرة ننخفتكا بسقارة، كما أن ثمة تشابه بين صوت المنشد القبطي الكنسي وصوت المغني في رنينه الذي تمتلئ به الحنجرة الصوتية، ولقد كان كورت زاكسي Kurt Sacz أول من كشف عن هذا التشابه، ثم تأصله بين هذا ونظيره، من خلال انقباضه عضلات الجبهة من أعلى الأنف مع انقباض عضلات الفم".
وأحيانًا ما يكف العريف عن الترتيل عندما يطمئن إلى خورس الشمامسة أو عندما يكون بينهم من يستطيع أن يقوم بدوره، أو عندما يكون هناك رئيس للشمامسة (أرشي ذياكون) وكأنه في صمته هذا يتأكد من نجاح مهمته في أن يخلق جيلًا جديدًا يقدر على أن يحافظ على هذا التراث الروحي الخالد[66] كما يكون من مهام المرتلين أيضًا غرس حب الألحان القبطية في قلوب هؤلاء الشمامسة وخلق جيل جديد من الأطفال الموهوبين موسيقيًا ليصبحوا شمامسة المستقبل.
_____
[60] Ref Coptic Encyclopedia Vol 6 – page 1736.
[61] Same reference
[62] إن الكنيسة القبطية عندما أخذت بعض الألحان من الكنيسة اليونانية أو الرومية، فإنها قامت بتمصيرها لتأخذ الطابع القبطي من حيث السرعات وطريقة الأداء وأبعاد المقامات والأجناس الموسيقية.
[63] جورج كيرلس - محاضرة في بيت الموسيقيين الروس – أكتوبر 2011
[64] مجلة الفكر والفن المعاصر، القاهرة، العدد 140، يوليه 1994، صفحة 152.
[65] عادل كامل –رسالة دكتوراه – مرجع سابق – ص 192
[66] جورج كيرلس – الألحان القبطية روحانيتها وموسيقاها – مرجع سابق – ص 65
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/george-kyrillos/musicality-coptic-hymns/chanters.html
تقصير الرابط:
tak.la/5qzfka7