الألحان القبطية وأبعادها الخمسة
الألحان القبطية تتميز عن سائر موسيقات العالم بأن لها خمسة أبعاد، هي:
1- البُعد العقائدي
2- البُعد الروحي
3- البُعد الطقسي
4- البُعد الموسيقي
5- البُعد التاريخي
فقد وضعت الكنيسة كل عقيدتها وإيمانها منذ عهدها الأول في الألحان، فالعقيدة الأرثوذكسية الأصيلة حين يصعب إدراكها بالعقل، فإن الروح القدس الذي عمل في هؤلاء الأباء القديسين الذين صاغوا هذه الألحان، يستطيع أن يعمل فينا كلما رددنا هذه الألحان. لذا فالجملة المكتوبة في الخولاجي "يقول الشعب" هي نوع من الإصرار من آباء الكنيسة الأولين أن يجعلوا الشعب يردد الألحان التي تحمل الإيمان، وكلما زاد ترديدها، كلما إزداد ثبات الإيمان في القلب.
فلو كانت عقيدة التثليث والتوحيد يصعب على العقل إدراكها، فإن لحن البركة "تين أوأوشت" (نسجد لآب النور وإبنه الوحيد والروح القدس المعزي الثالوث المساوي) يأتي ليثبت هذا المفهوم بالنغمات في القلب.
ولو كان الإيمان بأن السيدة العذراء هي والدة الإله " ثيؤطوكوس"، فإن لحن "شيرى ماريا تي أورو" يجئ ليثبت هذه الحقيقة الإيمانية في القلب لمن يصعب عليه بالعقل فقط أن يدرك أن الله له أم هي العذراء مريم.
ولو أرادت الكنيسة أن تُثَبت مفهوم الشفاعة، فإن لحن "هيتني برسفيا" هو الذي يستطيع أن يثبت هذا المفهوم بنغماته العذبة.
ولو أرادت الكنيسة أن تحارب بدعة فإنها تصيغ لحن ك "أومونوجينيس" (أيها الوحيد الجنس كلمة الله الذي لايموت"-
فكلمة "أرثوذكس هي مكونة من مقطعين هما:
"أرثو" ومعناها "إستقامة"
و"ذكسا" ومعناها "مجد"
ليكون المعنى الإجمالي للكلمة "الطريقة المستقيمة في تمجيد الله"
وكأن العقيدة الأرثوذكسية كإسم، هي مبنية على التمجيد بالألحان بطريقة سليمة.
سألوا أحد الآباء الأساقفة: "هل لديك عقيدة"؟ فأجاب الأسقف "نعم لدي عقيدة، وكلما تقدمت بي الأيام كلما زادت عقيدتي ثباتًا"
وأن لو سألوني"هل لديك عقيدة" فسوف أجيب" نعم لدي عقيدة، وكلما رددت الألحان كلما زادت عقيدتي ثباتا في القلبً ثم العقل".
فالترتيل بالألحان التي تحمل العقيدة والتي تحمل الإيمان والتي تحارب الإيمان الخاطيء الغير أرثوذكسي، لها قدرة على تحول القلوب وتليين العواطف. وهذا ما يؤكده سنكسار 4 كيهك الذي كتب عن القديس إندراوس وهو أخو بطرس الرسول، وقد اختير أن يمضي إلى مدينة "اللد" وإلى بلاد الأكراد، فدخل مدينة "اللد" وكان معه تلميذه فليمون وهو شجي الصوت، فأمره أن يصعد المنبر ويقرأ. فلما سمع كهنة الأوثان بمجيء أندراوس الرسول أخذوا حرابهم وأتوا إلى الكنيسة ووقفوا خارجًا ليسمعوا ما إذا كان يجدف على آلهتهم أم لا، فسمعوه يقرأ قول داود النبي: "أصنامهم فضة وذهب عمل أيدي الناس، لها أفواه ولا تتكلم، لها أعين ولا تبصر، لها آذان ولا تسمع، لها مناخر ولا تشم، لها أيدٍ ولا تلمس، لها أرجل ولا تمشي ولا تنطق بحناجرها. مِثلها يكون صانعوها بل كل مَن يتكل عليها" (مز115: 4-8). فابتهجت قلوبهم من حسن صوته ولانت عواطفهم ودخلوا الكنيسة وخرّوا عند قدمي أندراوس الرسول، فعلمهم ومن ثمَّ آمنوا بالسيد المسيح فعمدهم وكل من بقى من عابدي الأوثان.
لذا يجب على كل شماس ومرتل أن يعرف كيف يستشف البُعد الإيماني والعقائدي في كل لحن يرنم به، ومؤلف هذه السطور يعد برنامجا بعنوان "إيماني في ألحاني" لكي يعرف الشعب كله أن الإيمان قد وُضع بالكامل في الألحان التي تصل إلى نحو 1048 لحن نرددها من خلال 35 طقس على مدار السنة.
 |
وللألحان القبطية بعد روحاني، يرفع القلب إلى فوق، ويسمو بالفكر نحو السماء، ويفصل الإنسان عن الأرضيات ليلتصق بالسمائيات. وتظل النغمات المُغلفة للكلمات الروحية تعمل بالروح القدس كقول أحد الآباء:
"إن النغمات عندما تدخل إلى الكلمات، ترفعها فوق مستوى اللفظ"
ولن يستطيع أحد أن يعرف أعماق هذا البُعد الروحي إلا بالإطلاع على الكتب الروحية التي تشرح المفاهيم الروحية. فلو كان لحنًا عن القيامة، فيجب أن أقرأ الكتب الروحية للآباء الذين شرحوا مفاهيم القيامة، ويجب البحث في الكتاب المقدس لمعرفة الآيات التي وردت فيها كلمات هذا اللحن. فإن ذلك سوف يكون له تأثير عميق على فهم المعاني الروحية التي تحويها هذه الألحان.
← انظر مقالات وكتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
الألحان القبطية تختلف عن موسيقات العالم في أن لها بعد طقسي. فهي ليست كالأغنية التي تقدم على مسرح الأوبرا، ليجلس المستمعين ليستمعوا متلذذين بالنغم. لكن ألحان الكنيسة القبطية تقدم من خلال طقس دقيق وترتيب عميق. وكل حركة وإيماءة ترمز إلى مرموز وتشير إلى فكر روحاني وتعيد إلى الذهن أحداث من العهد القديم والجديد، وتجسد حالة تعيشها الكنيسة سواء حالة فرح أو حزن او نسك او ترقب. وقد إستخدمت الكنيسة أدوات كثيرة لتجسيد طقوسها، فاستخدمت البخور والستور واللفائف والإبروسفارين والملابس الكهنوتية والشموع والصلبان والأيقونات والورود والزيوت والحركة من سجود وإنحناء وجثو وتضرع وزفات...الخ. كل هذه إستخدمتها الكنيسة القبطية لتصاحب الألحان وتجسد معانيها بالطقس.
وفهم الطقس المصاحب للألحان يساعد على فهم الألحان ذاتها، ويقرب إلينا فكر الكنيسة المختبئ في أعماقها فلا يدركه إلا المتأملون.
ولن يستطيع أحد أن يعرف أعماق هذا البُعد الطقسي إلا بالإطلاع على الكتب التي تشرح الطقس، مثل "اللآلئ النفيسة في طقوس الكنيسة" و"منارة الأقداس" و"ترتيب البيعة" و"مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة"...الخ فإن ذلك سوف يكون له تأثير عميق على فهم الطقوس الني تحيط بهذه الألحان.
تتميز موسيقى الألحان القبطية بأنها فائقة الجمال الموسيقي، وأنها موسيقى تعبيرية، موضوعة بإبداع فني لتعبر عن معاني الكلمات وعن الجو الروحي الذي ترسمه الكنيسة لكل لحن ولكل مناسبة طقسية. ومحاولة كشف النقاب عن هذا البُعد الموسيقي وفهمه ومعرفة تفاصيله، من أجناس ومقامات موسيقية وصيغ وقفلات وجمل وعبارات وأوزان وضروب إيقاعية، وقوالب سكبت فيه الكنيسة موسيقاها لترسم صورة روحية عذبة بالنغمات، هذه تستطيع أن تجعل المرنم لهذه الألحان أن يرتل بالروح وبالذهن أيضًا.
وقد أغفل المرتلون على مدى قرون طويلة فهم هذا البُعد الموسيقي، بالرغم من أن الكنيسة الرسولية الأولى كانت قد أعطته أهمية كبري نبعت من تأسيس القديس مارمرقس الرسول لكلية اللاهوت حين أنشأ بها قسم لتدريس علوم الموسيقى.
لأنه هكذا قد تربى "موسى النبي" في بلاط فرعون مصر، فتعلم القراءة في سن العاشرة، وبعد ذلك تعلم الحساب والهندسة والموسيقى بكافة أشكالها، وتشتمل على الموسيقى الهارمونية والإيقاعية والصوتية وموسيقى الشعر (البحور والأوزان)، ثم درس الطب، وبعد أن تلقى كل العلوم المدنية والعسكرية تلقى على يد أكثر أساتذة مصر شهرة، دراسة العلوم الفلسفية واللاهوت. (يُرْجَع إلى الكتاب الأول "حياة موسى" للمؤرخ "فيلون اليهودي").
تختلف الألحان القبطية عن سائر ألحان الشعوب الأخرى بأن لها تاريخًا يضرب في جذور التاريخ بنحو ألفي عام. وهذا البُعد التاريخي يجعل لها مذاقًا خاصًا مختلف تماما عن أي موسيقى لأي شعب آخر. فقد حفظت الكنيسة القبطية هذا التراث بالعرق والدم في أزمنة الإضهادات المختلفة، وحفظتها بالتقليد الشفاهي في أزمنة غابت فيها أجهزة التسجيل ولم يكن علم التدوين الموسيقي قد عُرف بعد.
والجدير بالذكر أن آباء قديسون لهم قامات عالية هم الذين ألفوا معظم هذه الألحان، مثل القديس كيرلس الكبير والقديس أثناسيوس والقديس رومانوس والمعلم سركيس. لذا فالتوغل في أعماق هذا البُعد التاريخي مع الأربعة الأبعاد الأخرى يعطي فهمًا كاملًا لها الميراث الروحي النغمي.
وحتى لا يكون الحديث عن الأبعاد الخمس للحن القبطي مجرد كلمات غير مفهومة، فسيتم في الصفحات القليلة القادمة التعرض بالتفصيل إلى الأبعاد الخمس للحن توزيع القيامة "كاتا ني خورس" ليكون بمثابة نموذج يُحْتَذى لإكتشاف الأبعاد الخمس لأي لحن من ألحان الكنيسة القبطية.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/george-kyrillos/metacopt-hymnology/introduction.html
تقصير الرابط:
tak.la/m3cgr9f
