St-Takla.org  >   articles  >   fr-seraphim-al-baramosy  >   a
 

مكتبة المقالات المسيحية | مقالات قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي - تاريخ المقال: يوليو 2006

7- الجرح اللّيتورجي

 

 إذا كان كل شيء يزول

ويحمل موته في طيّه

هب لنا أن نكون الجسد

المسرور بتأدية الشكر

 ديديه ريمو

 

إنّ الكنيسة هي دائمًا موضع الحياة، يحدث في نطاقها ذلك التحوُّل الكياني في الإنسان ليتحوَّل إلى المثال الإلهي بحسب الدعوة العليا التي جاء من أجلها ابن الله، ففيها يتم التعرُّف على الله القائم من خلال خبرة المعمودية، حيث يعبر الإنسان العتيق بحر الموت إلى شاطئ الحياة، على مثال إسرائيل العتيقة التي جازت في الماء لتعبر إلى النجاة، ومن هنا كانت المياه هي رمز الموت وطريق الحياة.. موضع الظلمة والمعبر إلى النور.. محك الإيمان ورجاء الخلاص.. ولكن الحياة في المسيح لا تتوقّف عند نهر الأردن حيث يولد الإنسان من الماء والروح، ولكنّها تسير لتصِل إلى العُليّة الضيّقة، حيث المسيح والكنيسة ملتئمين معًا بشكلٍ فائق للوصف، هناك يدخل الإنسان الجائع إلى الله في خبرة جديدة وضروريّة ضرورة الحياة نفسها.. إنّها خبرة الاتّحاد بالربّ عبر المادة.. عبر نتاج الكرمة وحصيد القمح. فمن بين سنابل القمح وعناقيد العنب يشرق الله بوجهه على البشريّة، وسط اندهاش الكنيسة وعثرة العالم!! يدعو: خذوا كلوا.. اشربوا.. إنّه يُعطي حياته لنا بشكلٍ جديدٍ لم يكن يتوقّعه العالم ولم يكن يتقبّله العقل قبل مسحة الروح القدس، إنّه سرّ الأسرار.. وسرّ الحياة المتدفّق من خزائن غنى الله التي لا تستقصى، ولكن يبقى تفاعلنا مع الله الذي يُقدِّم لنا ذاته هو محور عملنا وموضوع جهادنا.

 

"بدون جسد الرب، تستحيل الحياة"

(ق. كيرلس الأورشليمي)

 

فالنهضة الليتورجيّة التي يشهدها العالم اليوم واضحة، ولكن يخُشَى أن تكون تلك النهضة هي امتداد أفقي يرتبط بالأرقام والإحصائيّات دون الجوهر واللُّباب. فالإفخارستيا كانت في الكنيسة الأولى وسيلة للابتهاج بالرب القائم عبر تلامس حي معه في جو من الصلاة والإيمان.. كانت وسيلة فعّالة لمعانقة المسيح بشكلٍ شخصي.. كان يسودها دائمًا بهجة الحضور الإلهي وسط الكنيسة، فكانت التسابيح التي تتخلَّق في خضمّ الليتورجيا هي تعبير الكنيسة عن شعورها بالمسيح الكائن في وسطها، وكانت الطلبات (الأواشي) هي صرخات الإيمان باحتياجات البشريّة، وبلغة العصر، طالما هي تفترش من الأرض مسكنًا لها، كما أنّ الاتّحاد الذي كان يتمّ بين الكنيسة ورأسها كان مصدر سلامها ونبع أفراحها في أحلك الظروف وأقسى الشدائد. فـ“عمانوئيل إلهنا في وسطنا الآن..” هي تلك الأنشودة التي ما تزال الكنيسة تنشدها كل يوم كرد فعل لتعاينه من حضور في حاضرها الليتورجي.

لذا فإن الليتورجية إن لم يرى فيها المسيحي نبعًا للفرح.. وصرحًا للإيمان.. وزادًا للمسير.. وإطلاقًا للعالم، فإن هذا يعني أنّ هناك خلل ما في التعامل مع هذا السر العظيم الذي للتقوى.

فالحضور الكمّي ليس هو المعيار والمقياس الذي ينبغي أن نزن به الأمور، ولكن وعى الصلاة ومسرّة تذوُّق الحياة الجديدة ومعاينة الأبدية ببصيرة الإيمان، وتأثيرنا في العالم، هي البوصلة الأمينة لتوجيه دفّة المسيحي في علاقته بالليتورجيا الكنسيّة بشكلٍ عامٍ وبالإفخارستيا بشكلٍ خاصٍ.. فالمسيرة المسيحيّة ليست مسيرة فرائض وطقوس مجرَّدة ينبغي علينا أن نؤديها استرضاءً لإله لا يقنع إلاّ بالتواجد الإنساني في مكانٍ ما وزمانٍ ما، ولكنّها مسيرة تجدُّد دائم بالروح القدس الساكن فينا.. مسيرة لا تنتهي لأنها ستظل ترافقنا أبديًّا بعد أن نعبر إلى الشاطِئ الآخر من الحياة. تلك المسيرة نحياها هنا في عالمنا بالدموع والآلام التي هي سمة حياة الجسد الترابي، فتتحوَّل فينا إلى إشراقات من النور والفرح، نتذوّقها هنا كعربون ونحياها هناك كواقع لا يتوقّف ولا ينضب ولا ينتهي.

إن ما يحدث فعليًّا في الإفخارستيا حينما نواجه ذواتنا ونتلاقى مع الله، هو أنّنا نصمت -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- فأمام هيبة الحضرة الإلهيّة تتوقّف ثرثرة الكلمات وينحسر تلاطم الأفكار التي أصبحت تسيطر على عقولنا وعالمنا. الإفخارستيا تؤهلنا لندخل مخدع السكون والخلوة، لنترك خارجًا كل أعذارنا وتبريراتنا التي نجعل منها قناع يخفى حقيقتنا، لنتعرّى أمام الله ليكسونا هو ببرّه المجاني، ونعمته الغنيّة..

والصمت في محضر الله هو الحاجة العظمى لإنسان اليوم. ولكن لا يفهم هذا الصمت كموقف سلبي من الحياة أو كردّة عن الفعل والتأثير في المجتمع أو كهروب من الواقع إلى عالمٍ آخر.. ولكنّه احتياج إنساني لكي نرصد الله في حياتنا. فالشكوى العظمى التي نعانى منها جميعًا هو عدم قدرتنا على معاينة الله ورصد حضوره، ممّا يجعلنا نتوهّم الحضور في أمور غيبيّة بعيدة كل البُعد عن نسيج الإنجيل ودعوة الروح القدس في قلوبنا، ويتبقّى الصمت وحده بمثابة نظارة مكبّرة تمكننا من رصد حركة الروح القدس حتى نستطيع أن ندركها ونستشعر عملها في إنساننا الداخلي، ونرى تلك العملية التي يتم فيها إماتة الإنسان العتيق وخروج الإنسان الجديد إلى نور الحياة.

ويتبقى أن نعي أن سر الخبز والخمر هو سر الحياة، أي أنه يُبقي على الصلة بيننا وبين النبع الإلهي الحي لتسري فينا دفقات الحياة الإلهيّة، ولو حدث أن توقّفت تلك النبضات الإلهيّة عن ضخ الحياة إلى كياننا الإنساني، فهذا يعنى الموت.. وتصبح الحياة جرحٌ دامٍ يفقدنا وجودنا الأصيل وينزع عنا قيمتنا في المسيح يسوع. ويبقَى الخطر الأكبر هو تحويل الليتورجيا إلى فريضة، والإفخارستيا إلى تعويذة، وحضور المسيح إلى غيبيّة.. هنا يتقيّح وجودنا بجرحٍ جديد؛ جرح ليتورجي، ينزف طالما كانت أعيننا منشغلة بذواتنا واحتياجاتنا وممارساتنا بعيدًا عن حضور المسيح، الذي يريد أن يتواجه مع خليقته المحبوبة ويداعبها بحبّه الأبوي..

قومي يا حبيبتي، يا جميلتي وتعالى

لأن الشتاء قد مضى والمطر مرّ وزال


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/articles/fr-seraphim-al-baramosy/a/liturgical.html

تقصير الرابط:
tak.la/j38jnkt