بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضًا لبعض
(يو13: 35)
إحدى الإشكاليات التي تواجهنا الآن هي إشكالية الهويّة المسيحيّة؛ فالحراك المجتمعي يفرز تحديات للوجود المسيحي ويفتح السبيل للعديد من الخيارات. ولعلّ مشكلة هويتنا المسيحيّة تظهر مع ظهور أصوات مسيحيّة جهورة مطالبة بالحقوق لأوّل مرّة بعد فترة صمت طويلة صنعتها نُظُم وتوازنات ومصالح ومخاوف.. إلخ.
إنّ الهويّة المسيحيّة تستند على قواعد أساسيّة لا يمكن إعادة صياغتها.. قواعد من الحب الباذل والغفران الصادق والانفتاح الكامل. لقد أصبحت تلك القيم المسيحيّة في خطر الآن إذ يرى البعض أنّها تعادل الخنوع والخوف والجبن والموائمات السياسيّة. ولعلّ البعض يريد (بوعي أو بدون وعي) أن يقايض الهويّة المسيحيّة بالحقوق المسيحيّة؛ فلا يجدون غضاضة في استخدام العنف أو الإيذاء اللّفظي أو البدني أو التجريح أو رفض الآخر ومعاداته من أجل الحصول على بعض الحقوق!! إنّها مقايضّة المسيح بالعالم!!! وانطلاق من مبدأ المصلحة الحقوقيّة لا ملكوت الله.
وهنا يخرج البعض بالسؤال: وهل المطالبة بالحقوق ضدّ الهويّة المسيحيّة؟؟؟ هذا السؤال هو نتاج الخلط بين الوسيلة والغاية.. بين الهدف والطريقة.. فالهدف والغاية هما الوصول للحقوق وهو لا يتعارض مع الهويّة المسيحيّة بأي شكل من الأشكال ولكن الوسيلة يجب أن تكون مُعبِّرة عن الهويّة؛ فمثلاً وسيلة جماعة القاعدة تعبِّر عن هويَّتهم.. وسيلة الحركة الصهيونيّة تُعبِّر عن هويَّتهم.. إلخ..
إن ما يجعلني أشعر بالحيرة أنه كانت هناك حركات نضاليّة حقوقيّة لاعنفيّة في العالم دون سند كتابي، ونحن لا زلنا نريد حقوقنا بمنطق طَرْق الحديد وننتهج أحيانًا سُبل هجوميّة تُمهِّد السبيل للكراهية التي هي أولى لبنات العنف مع أنّ دستورنا المسيحي الإنجيلي يطالبنا بالنقيض!!!!
ولمن لم يقرأ سيرة المهاتما غاندي(1) نجده استلهم نضاله اللاّعنفي من الإنجيل وأطلقه في المجتمع الهندي وأصرّ عليه مهما كان الاستفزاز الإنجليزي ومهما كانت الخسائر البشريّة في الطرف المسالم لأنّ نظريّته كانت قائمة على أنّ السلم يُحرِّك أنبل ما في الأعداء حينما يقاومون عُزَّل لا يسيئون إلى أحد، بل ويحشد المجتمعات والحقوقيين ضدّهم، وهو ما تحقَّق ونالت الهند حرّيتها السياسيّة من الاستعمار الإنجليزي. إن هذا السمو نتج عن قريحة إنسانيّة استلهمت مقاطع من الإنجيل، فكم بالأحرى الذين قبلوا الإنجيل دستورًا لحياتهم وقدّموا ذواتهم لله مختومة بطاعة الروح لله الآب، كيف يرتحلون بعيدًا عن المنطق الإلهي الذي يُحدِّد أشكال التواجد المسيحي في العالم من خلال قيم الحبّ والغفران والانفتاح الكامل؟!!
حينما تسأل البعض ما هو مطلبك؟ يجيب الحقوق، وحينما يمتد السؤال لبحث المدى الذي يمكن أن تمتدّ إليه تلك المطالبة تجد نبرة عالية تنذر بإمكانيّة التصعيد حتى العنف!!
لا أعرف ممّن نستلهم المثال؛ فالمسيح لم يجرح أحدًا حتّى مخالفيه.. لم يقسو على أحد حتى أعداءه.. لم يُعمِّم خطأ أحد حتى لو أشترك في الخطأ الكثيرون.. لم يرفع سيفًا في وجه أحد وإن صُوّبت عليه سهام الجميع.. لم يقابل الإساءة بالإساءة وإن كانت جارحة وتُشكِّك في كينونته الإلهيّة.. لم يرفض البدء في عهد جديد مع أحد وإن كان تاريخه مُحمَّل بالجرائم.. لم يتوقَّف عند التاريخ ليُصيِّره سدًّا منيعًا أمام إمكانيّة الغفران.. بل لم يتوقَّف أمام الحاضر والواقع الملوَّث بل كان دائمًا يرى ما يمكن أن يصيره الإنسان داعيًا إياه إلى الحياة..
إنّ مسيحنا كما نعرفه يُعلن الحقّ ولكنّه لا يجرح أحد لانتزاع الحقّ...
الرسالة المسيحيّة النابعة من هويتنا المسيحيّة هي رسالة إنسانيّة تستهدف الإنسان لا الحصول على بعض الحقوق من الإنسان.. تستهدف تحويل البشر إلى أحجار حيّة في الكنيسة لا رصّ أحجار ميّتة فوق بعضها لنحصر فيها الكنيسة.. تستهدف خلق مجتمع أفضل من خلال أعضاء الكنيسة الأحياء وسط العالم لا من خلال أوراق وقوانين تخضع لتوجُّهات السياسة وتتبدّل بتبدُّل النُظُم..
فلنتخيَّل أنّ مطالبنا الحقوقيّة النابتة من الذاكرة الشعيبّة بحثت عن الأعداء الذين آذوا الكنيسة طوال التاريخ؛ فسنبدأ باليهود والرومان واليونان والعرب والأتراك والفرس.. إلخ، لن يتبقى أحد إلا ونصنِّفه كعدو ونطالبه بالحقوق التاريخيّة.. وماذا سنجني؟؟ مزيدًا من الشعور بالظلم والقهر.. مزيدًا من الانحسار والتراجع والتقوقع..
إنّ الغفران ليس وسيلة ننال بها معاملة بالمثل من إلهنا الحبيب فقط -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- ولكنّه وسيلة لشفاء أنفسنا التي هشّمتها نيران الرغبة في الانتقام ونحرتها سكاكين المرارة حتى تركتها متقطِّعة الأوصال.. جريحة.. لا تستطيع البناء الحقيقي. إن غفرنا للآخر اندملت جراح نفوسنا المتقيَّحة، وإن اندملت الجروح تحوَّلنا إلى قوّة بنّاءة في المجتمع...
فالهويّة المسيحيّة القائمة على الغفران والحبّ غير المشروط هي هويّة غير قابلة للتفاوض، تمامًا كحقائق الإيمان. إن سألت أي مسيحي عن ردّة فعله أمام شخص يريد إجباره على إنكار ألوهيّة المسيح يسوع، ستكون الإجابة بالاستعداد للموت والاستشهاد من أجل الاعتراف بألوهيّته، ولكن إن سألته عن ردّة فعله أمام من يريد أن يطالب بحقوق بطريقة خاليّة من المحبّة، قد يوافق!! وفي أفضل الأحوال سيرفض ولكن بهدوء؛ فتلك القضيّة بالنسبة له تالية للإيمان!!! مع أنّ الوصيّة الأولى والعظمى والتي جاء بها المسيح، مُجدَّدة بالتجسُّد، هي الحبّ، من خلال الحبّ فهمنا الألوهة والفداء والثالوث والأبديّة، فكيف نتخلَّى عن الحبّ في خطابنا أو مطالبنا أو علاقاتنا!!!
قال أحدهم: «إنّ الحبّ يعطي الإنسان جذورًا وأجنحة». تلك الجذور هي انتماء شديد وصادق وانطلاق من الواقع، والأجنحة هي حريّة حقيقيّة لا تُوهب بنضالٍ خارجي فقط ولكنّها تتحقَّق بصراعٍ ضدّ كلّ قوى شريرة في الداخل والخارج، لتنضج الحريّة كثمرة نتمتّع بها. لا يمكن لقوى الشرّ أن تنهزم إلاّ بالحبّ ولا يمكن لقوى البُغضة أن تندحر إلاّ بالغفران؛ فالشيطان لا يخرج شيطانًا، وكلّ مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، هكذا قال المسيح.
مرّة أخرى لمن يتهمون المحبّة بالتخاذل، فإنّ الهويّة المسيحيّة لا تقف ضدّ المطالبة بالحقّ المشروع ولكنّها تنهي بشكلٍ قاطع عن انتهاج وسائل العالم وأدواته للحصول على الحقوق..
حقوقنا تجتذب أنظار العالم حينما نرفعها على رايّة المحبّة ونُذيِّلها بحتميّة الغفران.. لا طريق آخر..
_____
(1) أدعو الجميع لقراءة الكتاب الرائع عنه الذي أصدرته سلسلة النوابغ للكاتب أديب مصلح (السياسي القديس: المهاتما غاندي - 1992).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/fr-seraphim-al-baramosy/a/identity.html
تقصير الرابط:
tak.la/wtc5zwh