حينما سأل الإسكندر الأكبر أحد الفلاسفة: “إلى متى يحرص الإنسان على حياته؟” أجابه: “إلى أن يشعر بأنّ الموت أفضل من الحياة”، فالموت لن يتقدّم على الحياة إلاّ إذا كان مَعبَرًا لحياةٍ أسمَى وأبهج، كانت تلك قناعة المسيحيين الأُوَّل.
كانت رماح الاضطهاد تُسنّ في وجه الكنيسة لا لشيء إلاّ أنّها تبشّر بقيامة الربّ يسوع. فالقيامة هي رحمٌ جديدٌ انطلقت منه أشعّة الرجاء لمستوطني الظلمة وظلال الموت. لقد كتب القديس بطرس في رسالته: «مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنَ الأَمْوَاتِ» (1بط 1: 3). تلك كانت بشارة الرجاء التي يطلقها الرسل ليل نهار.
لم يكن الاضطهاد بسبب ممارسات لاأخلاقيّة، ولا طموحات سياسيّة، ولا تنظيمات تستهدف استقرار البلاد، ولا بسبب محاولات انقلابيّة ثوريّة تطمح في الحُكم، فقط لأنّ إعلان الكلمة هو جزءٌ أصيل في صميم الإيمان المسيحي، ونشر البشارة هو وصيّة إلهيّة، ولأنّ اسم المخلِّص لا يتوقّف عن الانبعاث من شفاه المسيحيين الأوائل.
“لاسم يسوع نرى أناسًا قبلوا ويقبلون أن يُعذّبوا بدلاً من أن يجحدوه، لأنّ كلمة حقّه وحكمته أكثر اضطرامًا وضياءً من قوّات الشمس، ويتسرّب إلى أعماق القلب والروح”(1)
إنّ تلك الكلمات هي ليوستين الذي مات شهيدًا على اسم المسيح (165- 166).
لقد بدأت أعاصير الاضطهاد تحيط بسفينة الكنيسة؛ «.. وَحَدَثَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ اضْطِهَادٌ عَظِيمٌ عَلَى الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي أُورُشَلِيمَ، فَتَشَتَّتَ الْجَمِيعُ فِي كُوَرِ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ، مَا عَدَا الرُّسُلَ» (أع8: 1). التشتُّت هو أحد صيغ التعامل مع الاضطهاد الذي أصبح يمثِّل تيارًا في أورشليم. هنا ونلحظ أن الرسل لم يبرحوا أورشليم ولم يتركوا حلبة الصراع؛ فالحقّ يجب أن يعلن، والجموع متمركزة في أورشليم حيث الهيكل، فالكرازة التي تنطلق من أورشليم ستجد لها مكانًا في كلّ ربوع المسكونة مع الحجيج القافلين إلى ديارهم.
لم يكن التشتُّت فعلاً سلبيًّا للجماعة المسيحيّة الأولى، فهو لم يقترن بالاختباء من لهب الاضطهاد ولكنه كان مقرونًا بمدّ رقعة البشارة بالملكوت إلى التخوم المجاورة؛ «فَالَّذِينَ تَشَتَّتُوا جَالُوا مُبَشِّرِينَ بِالْكَلِمَةِ» (أع8: 4). هنا ونلحظ أنّ مجابهة الاضطهاد إمّا يكون بقبول الألم والموت في يقينيّة الرجاء بملكوت الله، وإمّا بالخروج من بؤرة الأحداث مع الحفاظ على العمل الإيجابي وهو هنا الكرازة بقيامة السيّد. لذا فإنّ الهروب الخامل لم يكن أحد خيارات الكنيسة الأولى بأي شكل من الأشكال.
كانت ضربة استشهاد استفانوس بمثابة قوّة دافعة للكنيسة لتطلقها إلى مدىً بعيد. فلم تكن اليهوديّة والسامرة فقط هي محطّ رحال الكنيسة الأولى ولكنها امتدّت إلى فينيقيّة وقبرس وأنطاكيه؛ «أَمَّا الَّذِينَ تَشَتَّتُوا مِنْ جَرَّاءِ الضِّيقِ الَّذِي حَصَلَ بِسَبَبِ اسْتِفَانُوسَ فَاجْتَازُوا إِلَى فِينِيقِيَةَ وَقُبْرُسَ وَأَنْطَاكِيَةَ» (أع11: 19). ونتوقّف قليلاً عند تلك المدن الثلاث.
فينيقيّة، وهي لبنان الحاليّة،إنّها منطقة ساحليّة تقع على الساحل الشمالي لليهوديّة وبها موانئ تجاريّة مثل صيدون. أمّا قبرس فهي ثالث أكبر جزيرة في البحر المتوسّط بعد صقليّة وسردينيا وتقع على بعد حوالي ستين ميلاً على الساحل الغربي لسوريا. ولكن تبقى أنطاكية هي النقطة الأكثر إشراقًا في رداء الكرازة، فهناك ولدت كلمة “مسيحيين” وظلّت إلى يومنا هذا.
كانت هناك ست عشرة مدينة تسمّى أنطاكية ولكن تلك التي استقبلت البشارة الجديدة كانت أعظمهم على الإطلاق. إنّها كما أطلقوا عليها “المملكة الذهبيّة التي للشرق”.(2) كانت أنطاكيّة من أعظم ثلاث مدن في العالم بعد روما والإسكندريّة -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- وكانت من المدن التي تُسمّى “عالميّة” cosmopolitan وكان يصفها شيشرون بأنّها مكان الرجال المتعلّمين والدراسات الليبراليّة(3) إلاّ أنّها كانت ترزح تحت ثقل ممارسات وثنيّة لا أخلاقيّة؛ فقد كانت تشتهر بعبادة دافني(4) والذي كان هيكلها يبتعد حوالي خمسة أميال عن المدينة وسط بستان من أشجار الغار. كانت دافني فتاة تحوّلت إلى شجرة الغار إثر ملاحقة أبوللو لها بحسب الميثولوجيا الإغريقيّة القديمة. كانت كاهنات دافني مكرّسات لممارسة الخطيّة كنوع من التعبُّد لها.
انتقلت الكنيسة من مجتمع متحفِّظ دينيًّا إلى مجتمع يعاني من الانحلال الخلقي. الأوّل أصولي النزعة يركن إلى الحرف ويتحرّك وفقًا لضوابط تقليدٍ، بنَى برجه العاجي قادة اليهود، والثاني لا يُقيِّده ضابطٌ خلقيٌّ؛ فالانحلال عنده عبادةٌ وفقًا لتقليد عبادة دافني الوثنيّة. هنا وتقف البشارة أمام الأوّل لتبعث له بنسائم التحرير من الحرف، وتبعث للأخير بنسائم التحرُّر من قيد الخطيّة والفساد.
كانت البشارة في تلك المدن لليهود فقط في أوّل الأمر إذ كانوا «لاَ يُكَلِّمُونَ أَحَدًا بِالْكَلِمَةِ إِلاَّ الْيَهُودَ فَقَطْ» (أع11: 19). ولعلّ هذا يرجع إلى أنّ المكان الذي كانت تنطلق منه الكرازة هو المجمع اليهودي وخاصّة أيام السبوت حيث يهود المدينة مجتمعين. ويروي لنا يوسيفوس أنّ أنطاكية كان بها حوالي 25000 يهودي في وقته.(5)
ولسبب الانفتاح الأنطاكي على العالم كانت الفرصة مهيّأة لنقل البشارة لا لليهود المتحدّثين بالآراميّة فقط ولكن لليهود المتحدثين باليونانيّة أيضًا، وكانت الوسيلة هي بعض المسيحيين من الأصول القبرسيّة والقيروانيّة؛ «وَلكِنْ كَانَ مِنْهُمْ قَوْمٌ، وَهُمْ رِجَالٌ قُبْرُسِيُّونَ وَقَيْرَوَانِيُّونَ، الَّذِينَ لَمَّا دَخَلُوا أَنْطَاكِيَةَ كَانُوا يُخَاطِبُونَ الْيُونَانِيِّينَ مُبَشِّرِينَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ» (أع11: 90). إنّ كلمة «اليونانيين» التي وردت بالآية السابقة جاءت في اليونانيّة Ἑλληνιστὰς وقد تباينت آراء المفسرين واللُّغويين، هل المقصود بها اليونانيين أو اليهود المتحدثين باليونانيّة، وهل هم من الدخلاء proselytes الذين آمنوا بيهوه وهو الرأي الذي يرجّحه Wordsworth. وفي المقابل نجد أنّ Meyer يرى أنهم من اليونانيين غير المختونين ولكن الأتقياء على شاكلة كورنيليوس وكان يسمح لهم بالحضور للمجمع.(6) في كلّ الأحوال نجد أن الكنيسة كانت تنمو وتمتد وتتّسع وتعاين يدَ الله وتتمتّع بالعمل الإلهي الفائق للتصوُّر؛ «وَكَانَتْ يَدُ الرَّبِّ مَعَهُمْ، فَآمَنَ عَدَدٌ كَثِيرٌ وَرَجَعُوا إِلَى الرَّبِّ» (أع11: 21).
_____
(1) القديس يوستينوس، الحوار مع تريفون، تعريب الأب جورج نصور (الكسليك: جامعة الروح القدس، 2007)، 345.
(2) Wiersbe, Warren W. The Bible Exposition Commentary. Wheaton, Ill.: Victor Books, 1996, c1989, Acts 11: 9.
(3) MacArthur, John. Acts. Chicago: Moody Press, 1994, c1996, p.311.
(4) The Acts of the Apostles. Ed. William Barclay, lecturer in the University of Glasgow. The Daily study Bible series, Rev. ed. Philadelphia: The Westminster Press, 2000, c1976, p.88.
(5) Boice, James Montgomery. Acts: An Expositional Commentary. Grand Rapids, Mich.: Baker Books, 1997, p. 197.
(6) The Pulpit Commentary: Acts of the Apostles Vol. I. Ed. H. D. M. Spence-Jones. Bellingham, 2004, p.358.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/fr-seraphim-al-baramosy/a/dispersal.html
تقصير الرابط:
tak.la/srf5s7h