برؤيتنا القريبة من الواقع، نلاحظ ازدياد الشر في العالم كل يوم عن سابقه، في كافة المجالات والمناحي العالمية: في العمل، في المجتمع، في الأسرة، في الخدمة، في المجالات العلمية والاجتماعية والروحية.. في كل مكان وكل زمان يأتي بعض ممن يرغبون في حياة الشر لكي يعكروا صفو الحياة والمجتمعات والأُسَر وما إلى ذلك..
ومن هنا يتبادَر على أذهان البعض: لا يوجد شيء من الخيال، ولكل شيء أصل للوجود.. فَمَنْ خلق الشر؟ إن كان الله، فكيف يخلق القدوس شرًّا؟! وإن كان غير الله، فهل كان للعالم خالِق غير الله؟ فكلا الافتراضين خاطئ في منطقهُ وأسلوبه. فكلام الفلاسفة والمتفلسفين في سرد حقائق خيالية أو افتراضات واهية قد أضاع البعض، وأودى بهم إلى الإلحاد وإنكار وجود الله بسبب كثرة الشر وانتشاره. وكيف في حالة وجود الله الضابط الكل والخالق للكون أن يترك الشر يستمر، بل ويزداد..؟! وما إلى ذلك من الأسئلة التشكيكيَّة التي تتعب أذهان البعض في هذه الأيام. ولكن دعني أترك هذا الجانب وأجنح نحو الجانب الكتابي مرجعنا الأساسي: "وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا" (تك 1: 31). إذًا، فخليقة الله كلها حسنة، بل كلها حسنة جدًا. إذًا لم يخلق الله شرًّا، فمن أين أتى الشر؟!
وللإجابة على هذا السؤال لابد لنا أن نتعرَّض أولًا إلى موضوع يتعلَّق به، ولا نستطيع أن نحل مشكلتنا هذه إلا من خلاله وفهمه فهمًا جيِّدًا؛ ألا وهو: حرية إرادة الإنسان.
فلم يخلق الله الإنسان آلة صمًّاء، وُضِعَت في يد القدر ككرة يتقاذفها اللاعبون، أو تقع في يدهم بدون أدنى إرادة أو اعتراض أو موافقة. وليس الإنسان مجرد مُنَفِّذ لغرائزه فقط كالحيوان، بل خُلِقَ الإنسان إنسانًا عاقلًا، حُرًّا، مُريدًا. وما يؤكد ذلك ما ذُكِرَ في سفر يشوع بن سيراخ: "صَنَعَ الإِنْسَانَ فِي الْبَدْءِ، وَتَرَكَهُ فِي يَدِ اخْتِيَارِهِ" (سي 15: 14).
ولا يمكن أن يكون الله الكلي القداسة علَّة الشر أو الموحي إلى الشرير بارتكاب جرائمه وشروره وتماديه فيها، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر.. لذلك قيل بنفس السفر: "لَمْ يُوصِ أَحَداً أَنْ يُنَافِقَ، وَلاَ أَذِنَ لأَحَدٍ أَنْ يَخْطَأَ" (سي 15: 21)، بل ترك الله الإنسان لحريته وإرادتهُ التي خُلِقَ على صورة الله بها.
صحيح أن الإنسان لا يستطيع أن يكون صالحًا بذاته بل بنعمة الله ومعونتهُ، ولكن نعمة الله نفسها لا تُعْطَى لشخص ولا تُمنَع عن شخص آخر، وإلا يُتهم الله بالظلم والتفرقة بين خلقته -وحاشا لله عن ذلك- وإنما عمل النعمة أو عدمه يعتمد على الشخص نفسه الذي يهيئ أرضه لنموّ البذرة متى عُرِسَت بها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ففي سفر الحكمة يقول: "عَلَى السَّوَاءِ.. عِنَايَتُهُ تَعُمُّ الْجَمِيعَ" (حك 6: 8). وعن ذلك يقول القديس ديونيسيوس البطريرك الرابع عشر من تعداد بطاركة الإسكندرية: "كما أن شمسنا تنير كل ما يقبل الاشتراك في نورها بغير قياسٍ أو انتخاب، بل بوجودها كذلك الخير الإلهي أيضاً يفيض بذاته أشعة خيريته على جميع الموجودات". والكتاب يقول: "الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ" (1 تي 2: 4).
إذًا، فهناك إرادتان متمايزتان: إرادة الله وإرادة الإنسان، وهذا ما يبدو صريحًا وواضحًا في قول رب المجد: "يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ..! كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ.. وَلَمْ تُرِيدُوا" (متى 23: 37؛ لو 13: 34).. وهنا نجد إرادتنا متضادتان: إرادة الله - إرادة الإنسان. ومن ثم نستخلص أن الشر لم يصنعهُ الله، ولكن غياب الخير والبر والتقوى والقداسة والنمو الروحي للبشر (للإنسان) يعني وجود الشر بكثرة.. الإنسان عندما يبتعد عن الأسرار والإنجيل والممارسات الروحية، فإنه يُسَلِّم نفسه لأهوائه الشخصية، فيتملَّك الشيطان منه تَمَلُّكًا كاملًا، فيجعله يفعل ما لا يحق له، وما لا يُعْقَل فِعله، فيزداد الشر وينحصر الخير في البعض القليل، فينظر في مرآة قاتِمة لا تُرينا إلا الشرور المتزايدة. وقد يضعف إيمان البعض، ولكن الله لا يتخلَّى عن الإنسان، ولا "يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ" (أع 14: 17).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/fr-botros-elbaramosy/a/who-created-evil.html
تقصير الرابط:
tak.la/pcwr36g