إن التاريخ البشري حافل جدًا بأنواع لا حصر لها.. من الآلام والمآسي والأحزان التي حلّت به، ومازالت متوالية.. وسوف تستمر بدون انقطاع.
فالسيد المسيح بنفسه تألم كثيرًا.. "البارُّ مِنْ أجلِ الأثَمَةِ" (1بط3: 18).. فهو"رَجُلُ أوجاعٍ ومُختَبِرُ الحَزَنِ" (إش53: 3).
فباحتماله هذه الآلام المبرحة (وهي ليست الآلام الجسدية فقط) في قصة جلده وصلبه.. ولكنه منذ لحظة ولادته تألم كثيرًا..
* ولادته في مذود في شهر كيهك القاصي البرودة.
* وهروبه إلى أرض مصر وهي المدة التي زادت عن سنتين وهو طفل رضيع.
* واحتمال مشقة السفر والهروب بسرعة من بلد لأخرى.
* وفي خدمته احتمل إهانات اليهود، واتهاماتهم له أنه مضل ويُخرج الشياطين برئيس الشياطين، وأنه سامري وبه شيطان ومجدف..
- "أمّا الفَرّيسيّونَ فقالوا: "برَئيسِ الشَّياطينِ يُخرِجُ الشَّياطينَ!" (مت9: 34).
- "وأمّا الكتبةُ الذينَ نَزَلوا مِنْ أورُشَليمَ فقالوا: "إنَّ معهُ بَعلَزَبولَ! وإنَّهُ برَئيسِ الشَّياطينِ يُخرِجُ الشَّياطينَ" (مر3: 22).
- "فقالَ كثيرونَ مِنهُمْ: "بهِ شَيطانٌ وهو يَهذي. لماذا تستَمِعونَ لهُ؟" (يو10: 20).
كل هذه الآلام احتملها مسيحنا المُعلّم الصالح لكي يعلمنا ويعطينا مفهومًا جديدًا للألم.. فقد حوّل الألم من عقوبة إلى بركة (الصليب من لعنة إلى قوة وخلاص).
وعلى نفس خُطى مخلصنا الصالح سار معلمنا بولس الرسول، الذي استعذب الألم وذاق حلاوته، واختبر بركته.. فنجده حينما يتكلم عن الألم يقول: "قد وُهِبَ لكُمْ لأجلِ المَسيحِ لا أنْ تؤمِنوا بهِ فقط، بل أيضًا أنْ تتألَّموا لأجلِهِ" (في1: 29).
فالبعض لعدم اقترابهم لله، وسعيهم وراء الماديات، وعدم اقترابهم إلى المذبح والأسرار.. يحيوا حياة السطحية الروحية. فلعدم تذوقهم لمحبة الله لهم، وجهلهم لحكمة الله في العناية بحياتهم، وعدم تسليمهم لمشيئة الله.. يعثرون في الله بسبب هذه الآلام، فيضعفون أمامها، ويتذمرون على الله بطريقة مباشرة في كلامهم، الذي ينم على الاعتراض المستمر على أحكام الله.. أو بطريقة غير مباشرة وهي عدم شكرهم وقبولهم الألم لفائدتهم الروحية.. بل قد يصل البعض لدرجة عالية جدًا من عدم احتمال الألم، وهو التجديف على السيد المسيح نفسه، واصفين إياه بعدم الرحمة وعدم العدل وعدم العناية وعدم الاهتمام.. ناسبين إليه الظلم والافتراء.. وذلك نتيجة لجهلهم بحكمة الله.
وهكذا مع الأسف الشديد نراهم فيما هم يتجرعون كؤوس الألم بكثرة.. كأس تلو الآخر.. رغم أنوفهم وإرادتهم.. يحرمون أنفسهم من بركات هذه الآلام.. متجاهلين تمامًا أن الإنسان طالما يحيا في الجسد فلا بد له أن يتألم لسبب أو آخر.
لذلك عندما جاء السيد المسيح ليقدم لنا مفهومًا جديدًا لكل شيء.. قدم لنا ذاته كمثال.. فنراه منتصرًا على الألم، وذلك في معجزات الشفاء وإقامته للموتى.. هذه المعجزات كانت مقدمة ومؤشرًا واضحًا لانتصاره النهائي والعظيم على الألم وهو فوق الصليب.
مَنْ يستطيع أن يحتمل كل هذه الآلام النفسية والجسدية؟! ومع ذلك يصرخ وهو في قمة آلامه: "يا أبَتاهُ، اغفِرْ لهُمْ، لأنَّهُمْ لا يَعلَمونَ ماذا يَفعَلونَ" (لو23: 34).
هذا هو الاحتمال الغير متناهي..
بل الاحتمال الغافر لآثام الآخرين..
الملتمس الأعذار.
* فهو الذي أتم نبوة إشعياء النبي: "لَكِن أحزانَنا حَمَلها، وأوجاعَنا تحَمَّلها" (إش53: 4).
* وهو الذي كان يشفي المرضى بدون استثناء..
"لكَيْ يتِمَّ ما قيلَ بإشَعياءَ النَّبي القائلِ: "هو أخَذَ أسقامَنا وحَمَلَ أمراضَنا" (مت8: 17).
"لأنَّهُ كانَ قد شَفَى كثيرينَ، حتَّى وقَعَ علَيهِ ليَلمِسَهُ كُلُّ مَنْ فيهِ داءٌ. والأرواحُ النَّجِسَةُ حينَما نَظَرَتهُ خَرَّتْ لهُ وصَرَخَتْ قائلَةً: "إنَّكَ أنتَ ابنُ اللهِ!" (مر3: 10-11).
وجاء السيد المسيح ليعطي للألم مفهومًا جديدًا..
وهو (البركة).
فقد حوّل مفهوم الألم على أنه (عقوبة)، كما كان يظن شعوب العالم في العهد القديم، وكما وضح ذلك في قصة شفاء مريض بين حسدا.. فبعد أن شفاه السيد المسيح قال له: "ها أنتَ قد بَرِئتَ، فلا تُخطِئْ أيضًا، لِئلا يكونَ لكَ أشَرُّ" (يو5: 14).
فأوضح السيد المسيح أن لا يوجد أي علاقة بين الخطيئة وأي مرض أو حدث يحدث للشخص، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى.. في ذكره حادثة قتل هيرودس للجليليون الذين خلط دمائهم بذبائحهم، أو الذين سقط عليهم البرج في سلوام.. "وكانَ حاضِرًا في ذلكَ الوقتِ قَوْمٌ يُخبِرونَهُ عن الجليليينَ الذينَ خَلَطَ بيلاطُسُ دَمَهُمْ بذَبائحِهِمْ. فأجابَ يَسوعُ وقالَ لهُمْ: "أتَظُنّونَ أنَّ هؤُلاءِ الجليليينَ كانوا خُطاةً أكثَرَ مِنْ كُل الجليليينَ لأنَّهُمْ كابَدوا مِثلَ هذا؟ كلاَّ! أقولُ لكُمْ: بل إنْ لم تتوبوا فجميعُكُمْ كذلكَ تهلِكونَ. أو أولئكَ الثَّمانيَةَ عشَرَ الذينَ سقَطَ علَيهِمُ البُرجُ في سِلوامَ وقَتَلهُمْ، أتظُنّونَ أنَّ هؤُلاءِ كانوا مُذنِبينَ أكثَرَ مِنْ جميعِ الناسِ السّاكِنينَ في أورُشَليمَ؟ كلاَّ! أقولُ لكُمْ: بل إنْ لم تتوبوا فجميعُكُمْ كذلكَ تهلِكونَ" (لو13: 1-5).
ومن خلال هذه الأحداث أوضح لنا أن الألم هو "بركة".. لأن يُعد الإنسان لإقبال الملكوت وأخذ بركات لا حصر لها.. فالآلام تهيئ الإنسان.. أن "تظهَرَ أعمالُ اللهِ فيهِ" (يو9: 3)، وتفسح طريقًا لظهور مجد الله في حياة الإنسان.
هكذا في المسيحية..
تبدلت صورة الألم التي يعاني منها المسيحي،
وأيضًا فعاليته ومذاقته،
فارتقى إلى المستوى الروحي بأن أصبح هبة..
"لأنَّهُ قد وُهِبَ لكُمْ لأجلِ المَسيحِ لا أنْ تؤمِنوا بهِ فقط،
بل أيضًا أنْ تتألَّموا لأجلِهِ" (في1: 29).
وحينما تبدلت صورة الألم، وصار له مفهومًا جديدًا.. أصبح هذا الألم شركة مع الرب في آلامه..
* "إنْ كُنّا نَتألَّمُ معهُ لكَيْ نتمَجَّدَ أيضًا معهُ" (رو8: 17).
* "لأعرِفَهُ، وقوَّةَ قيامَتِهِ، وشَرِكَةَ آلامِهِ، مُتَشَبهًا بموتِهِ" (في3: 10).
* "وأُكَمِّلُ نَقائصَ شَدائدِ المَسيحِ في جِسمي لأجلِ جَسَدِهِ، الذي هو الكَنيسَةُ" (كو1: 24).
ولذلك أصبح الألم في المسيحية ليس ألمًا متعبًا.. ولكنه متعة.. يستمع بها الإنسان الذي يشعر ببركاته في حياته.
إلهنا الصالح يعطينا قوة لاحتمال الألم بشكر وفرح..
ولإلهنا كل المجد والإكرام من الآن وإلى الأبد آمين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/fr-botros-elbaramosy/a/pain.html
تقصير الرابط:
tak.la/g2fxxw6