أي النقاوة من الأمور الزائلة أو الباطلة.
ونقصد بهذه الأمور الزائلة أو الباطلة، من يقضي وقتا طويلًا يتحدث في أمور تافهة، لا هي خطية، ولا هي بر... أو يقضي وقتا يفكر في أمثال هذه الأمور أو ينشغل بها... ويدل بذلك على أن فِكره أو قلبه يمكن أن ينشغل بهذه التافهات، ويمكن بسببها أن يُضِّيع وقتا كان يمكن أن يقضيه مع الله، في صلوات أو تأملات أو قراءات روحية أو تسابيح، أو أي أمر ذي قيمة، يُناسب حالة القلب النقي...
هذه الأمور الزائلة لا هي خير في ذاتها، ولا هي شر في ذاتها. ولكنها تفاهات تُعَطِّل العمل الروحي الإيجابي.
هذه الأباطيل هي التي منعنا عنها الرسول بقوله: "غير ناظرين إلى الأشياء التي تُرى، بل إلى التي لا تُرى. لأن الأشياء التي تُرى وقتية، أما التي لا تُرى فأبدية" (2 كو 4: 18). والإنسان الذي لا ينظر إلى المرئيات، هو الذي يقول مع داود النبي: "أما أنا فخير لي الالتصاق بالرب" (مز 73: 28). والالتصاق الكامل بالرب، لا يأتي إلا بنقاوة القلب.
إن النقاوة من الخطية حالة مقدسة، لا يُسميها الآباء نقاوة القلب.
إنما يُسمونها الطهارة. والطهارة أقل من النقاوة في الدرجة.
الطهارة -في كثير من مفهوماتها- سلبية في قداستها، تعني البعد عن النجاسة والخطية. أم النقاوة فقداستها إيجابية، وهي الالتصاق الدائم بالله فكرًا وقلبًا وعملًا. وتأتي كمرحلة بعد الطهارة. ومن مميزاته النقاوة من الأباطيل... فما هي هذه الأباطيل.
إننا نعيش في عالم مملوء بهذه المرئيات الزائلة. فهل نُغْمِضْ أعيننا حتى لا ترى، عملًا بقول الرسول: "غير ناظرين إلى ما يُرى"؟
كلا، لا نُغْمِضْ أعيننا. وإنما لا نهتم بما نرى ونسمع.
أي أن تقع أعيننا على شيء تراه، فتجوز مُقابِلَهُ، وهكذا باقي حواسنا. والمعروف أن "الحواس هي أبواب الفكر". وأن ما تجمعه حواسنا، تفكر فيه عقولنا، أو على الأقل يدخل فكر عنه إلى أذهاننا. وهنا نكون أمام أحد تصرفين:
إما أن يمر فكر هذه الأمور بسرعة ويعبر كالدخان. وهذه حالة من حالات نقاء القلب. وإما أن يستقر الفكر قليلًا أو طويلًا فينا، ويشتغل في داخلنا بدرجات تتفاوت في الحدة وفي المدة، حسب نقاوة كل منا.
الإنسان الذي لم يتَنَقَّ بعد، قد تجلب له هذه المرئيات أفكار خطية، وتتحول فيه إلى رغبات وشهوات... ولست عن هذا أتكلم، فالحديث عنه خاص بالنقطة الأولى وهي "النقاوة من الخطية".
ولكني أقول إن مثل هذه المرئيات قد تجلب لإنسان الله، لا أفكار الخطية، وإنما بعض الانشغال أو الاهتمام، تختلف حسب نقاوة القلب، حسب موته عن العالميات، أو موت العالميات في القلب.
هذه الأفكار الزائلة، هي على الأقل تُضِّيع الوقت.
والوقت هو جزء من حياتك. لم يُعطِه لك الله لكي تُضِّيعَه، إنما لكي تستفيد منه، لأجل خلاص نفسك، ولأجل تنقية قلبك وفكرك، ولأجل ربط مشاعرك بالله... فلا تضيعه في التافهات.
والعقل المُنْشَغِل بالتافهات يدل على قلة محبته لله.
إذ أن قلبه ليس متحدًا بالله اتحادًا كاملًا مستمرًا، وتوجد أمور تافهة تشغل عقله عن الله، ولو في ثرثرة لا فائدة منها. فمتى تتنقَّى من كل هذا، ولا يصبح في قلبك إلا الله وحده؟
القلب النقي نقاوة كاملة، هو القلب الذي مات بالتمام عن أباطيل العالم كلها، لكي يحيا بالتمام للرب.
وعقله أصبح غير مُتفرغ لهذه الأشياء التي تُرى، من فِرط انشغاله بما لا يُرى. إن العقل دائب العمل ودائم التفكير. إنما يختلف تفكيره بحسب المادة التي ينشغل بها، وهي واحدة من اثنتين: إما مرئيات، وإما أمور لا تُرى. والانشغال بالأمور الإلهية التي لا تُرى هي حالة النقاوة المثالية.
وقد يكون التفكير في الأمور الزائلة، هو حالة متوسطة بين أفكار الخطية والأفكار الإلهية.
إنها ليست خطية بالنسبة إلى الشخص العادي، ولكنها حالة نقص فيه. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وقد تتطور فتتحول إلى خطية. والقديسون يهربون من هذا النقص، الذي يدل على أن القلب لم يتنق بالكمال من العالميات.
القديس بولس الرسول -في حديثه عن المُتَزوج- قال إنه: "يهتم فيما للعالم" (1 كو 7: 32، 33). وهناك أمور أخرى غير الزواج تسبب اهتمامًا بالعالميات، ربما الوظيفة، أو الأسرة، أو الدراسة العالمية، أو بعض النشاط الاجتماعي، أو المال، أو شهوات الجسد عمومًا... فيفحص كل مِنَّا على ذاته، وليعرف الأبواب التي يدخل منها العالم إليه بأباطيله، ويجد له مكانا في الفكر أو في القلب.
وهنا أحب أن أفرِّق بين كلمتين: العمل والاهتمام.
قد يعمل الإنسان في المرئيات، دون أن تعمل المرئيات فيه
ويكون قلبه مع الله. كما كان الآباء القديسون يعملون في الخوص في البرية، وقلبهم يعمل عمله الإلهي في التزمير والصلاة والتسبيح. كانوا يعملون في هذه الأشياء، وهم: "غير ناظرين إليها" أي غير منشغلين بها.
إن الرب لم يوجه اللوم إلى مرثا لأنها كانت تعمل، وإنما لأنها كانت بالعمل في حالة اهتمام واضطراب (لو 10: 41). العمل لم يكن في يديها فقط، وإنما وصل إلى الفكر والقلب فانشغلا به. وفي انشغالهما عجزا عن أن يتفرغا للرب "فلازما الواحد، واحتقرا الآخر" لأنه لا يقدر أحد أن يخدم سيدين في وقت واحد (متى 6: 24).
فهل يمكن إذن أن نعمل عملًا، دون أن ننشغل ونضطرب ونهتم؟إن هذا هو المطلوب من القلب النقي "أريد أن تكونوا بلا هم" (1 كو 7: 32). وكيف يكون هذا؟
بأن تكون علاقتنا بالمرئيات سطحية، لا تدخل إلى العُمق.
وهذا يتوقف على مدى تقييمنا للأمور.
كلما ازدادت قيمة الأمر في نظرنا، ازداد عمقه فينا واهتمامنا به. لذلك فإن آباءنا الذين مات العالم في نظرهم، وحسبوه نفاية لكي يربحو المسيح (في 3: 8)، هؤلاء لم تَعُد لكل أمور العالم قيمة عندهم، مهما كانت قيمتها خطيرة في أعين الآخرين الناظرين إلى ما يُرى... وبالتالي لم تعُد هذه الأمور تشغلهم، ولا يضطربون لها، بل يحيون في سلام. وينطبق عليهم قول القديس بولس الرسول:
"والذين يستعملون هذا العالم، كأنهم لا يستعملونه" (1 كو 7: 31).
ولكننا كثيرًا ما ننسى أنفسنا وروحياتنا. فنسمع مثلًا خبرًا معينًا، أو نقرأ عن حادث ما، أو ندخل في إحدى المناقشات... وهنا ننسى أن قلبنا وعقلنا كليهما للمسيح. ونظل نتكلم ونُعَلِّق ونُناقِش، ونُبْدي الآراء، ونتحمس في الرد على المُعارضين. وقد يكون الأمر لا يستحق شيئًا من هذا. ولكنه مع ذلك يملك -لا على ألسنتنا فقط، ولا على فكرنا فحسب- وإنما أيضًا على أعصابنا وعواطفنا... وهنا تكون المياه قد دخلت إلى أنفسنا. وأصبحنا نهتم ونضطرب لأجل أمور كثيرة. أما الواحد الذي الحاجة إليه، فلا نكون متفرغين له، بل مفكرين أننا "عندما يحصل لنا وقت نستدعيه" (أع 24: 45).
وقد نرجع إلى بيوتنا، وما يزال الموضوع في أذهاننا، وقد نصبه أيضًا في عقول غيرنا، فنشغل الآخرين به.
والأفكار ليست عواقر، إنما تلد أفكارًا أخرى...
وقد يتعمق الفكر في عقلنا الباطن، ويلد أحلامًا وظنونًا.
وقد نقف ونصلي، فتطيش عقولنا في أفكار كثيرة، ذلك لأننا أعطينا تلك الأفكار عمقا فينا، فأخذت سلطانا علينا... فاحذر، لا تُعطِ أمور العالم عمقا في فكرك ومشاعرك ووقتك. وإن سرقك الاعتياد القديم، استيقظ بسرعة، وقل للرب مع المرتل: "أردد عينيّ لئلا تُعاينا الأباطيل" (مز 118 ه).
يقظة العقل والجهاد مع الأفكار، يسبقان نقاوة العقل والقلب.
القديس الأنبا أور كان يقول لتلميذه: "انظر يا ابني، لا تُدخِل هذه القلاية كلمة غريبة"، يقصد أية كلمة غريبة عن الله وملكوته. والقديس الأنبا يوحنا القصير كان ينفض أذنيه قبل الدخول إلى قلايته، حتى لا تدخلها مناقشات سمعها من آخرين...
هذا جهاد سلبي... أما من الناحية الإيجابية فإنه:
تعوزنا الغربة عن العالم، مع هذيذ الفكر بالإلهيات.
شعور الإنسان بغربته عن العالم، يجعله لا يُقحِم ذاته في أمور العالم وحوادثه وأخباره وأحاديثه وارتباكاته. وإن وصل إليه شيء منها، لا يتفاعل معه ولا يتجاوب، قائلًا لنفسه: "غريب أنا. ما شأني بهذا الأمر".
كذلك انشغال الفكر بالإلهيات، يجعله غير مُتفرغ لأمور العالم بل نافِرًا منها، لأنها تُعطله عن هذيذه الإلهي الذي يقول فيه: "محبوب هو اسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي" (مز 118)[م.].
متى يصل القلب والفكر إذن إلى النقاوة؟
عندما يتخلص الإنسان من الخطية، وعندما يتنقَّى من الأحلام والأفكار والظنون، وعندما يتنقَّى من الأباطيل...
كل هذا من الناحية السلبية. فماذا إذن عن الناحية الإيجابية؟
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/f5f56qc