الذي يريد أن يصل إلى الحقيقة، لا يجوز له أن يعتمد على وجهة نظر واحدة، إنَّما عليه أن يستمع إلى كل وجهات النظر، ويفحصها ويُحلِّلها، ليخرج بنتيجة سليمة. لذلك إن عرض عليك شخص أحد أوجه الحقيقة، فلا تُصدِّق بسرعة بدون تحقق، إنما ابحث: أين الوجه الآخر؟ أو أين الأوجه الأخرى؟
إن شكا أحد من عقوبة شديدة وقعت عليه، فلا تسرع وتصف الذي عاقبه بالقسوة والعنف، إنما ابحث من الناحية الأخرى عن الذنب الذي بسببه تمَّت العقوبة. فرُبَّما إن عرفته، تدرك أن العقوبة كانت أقل مما يستحقه من جزاء! وحينئذ ستصف مَن عاقبه بالشفقة والحنو.
إن حدثك الربيع عن حالة الجو في إحدى البلاد، فلا تثق بأنها حالة دائمة لها، إنما أنصت إلى ما يقوله الصيف والخريف والشتاء. وحينئذ ستعرف ما هي طبيعة تلك البلدة، لأنك لم تقتصر في معرفتك لها على جانب مُعيَّن في وقت مُعيَّن...
وإن حكى عن نفسه، ومدح ذاته بصفات خاصة، فلا تحكم على شخصيته يما سمعته منه، إنما استمع أيضًا إلى ما يقوله الناس. ثم كوِّن لك رأيًا من سماع الجانبين...
كذلك لا يكفي ما يعرف عن شخصيته وتصرفاته أمام الناس، فهذه نصف الحقيقة، والنصف الآخر هو طريقة تعامله في بيته ومع عائلته. رُبَّما يكون هناك بطبع آخر أو بأسلوب آخر. وهذا الأمر يجب أن يتأكد منه مَن يوشك أن يدخل في خطوبة أو زواج... فقد يكون الشخص بصورة ما أمام المجتمع، وبصورة أخرى في بيته، وقد يكون في داخل قلبه وأحاسيسه شيئًا ثالثًا. وهو يجمع هذا كله! في العلن صورة، وفي الخفاء صورة مُغايرة!
ورُبَّما ما يعلنه إنسان عن مبادئه وأفكاره ورغباته، هو جزء من الحقيقة، أمَّا ما ينفذه من تلك المبادئ والأفكار شيء آخر... حقًا إنَّ الأمور الظاهرة هي جزء من الحقيقة، بينما الأمور الخفية هي جزء آخر وقد يكون هو الجزء الأكبر lie by omission...
لا تحكم على يهوذا بصورته وهو يتبع المسيح وينشر تعاليمه. إنَّما ضع إلى جوارها صورته وهو يخونه. حينئذ تعرف حقيقة ذلك الرجُل... وأي صديق لك، لا تحكم على مشاعره بحالته أثناء الصفاء والرضى، إنما ضع إلى جوارها مشاعره وانفعالاته أثناء الخلاف والغضب...
وكل إنسان، اذكر له ما له وما عليه، دون أيَّة مبالغة في فضائله أو نقائصه، حتى تكوِّن لك صورة متكاملة عنه. لا تقتصر على نواحي القوة فيه، أو نواحي الضعف، إنما تشمل الأمريْن معًا.
إن الاتهام يُمثِّل نصف الحقيقة. والدفاع يُمثِّل النصف الآخر. والقاضي العادل يستمع إلى الأمريْن معًا، ويمكنه أن يستنتج الحقيقة. وبنفس الوضع ما يُقال في السياسة عن التأييد والمعارضة. فكل منهما يُمثِّل وجهة نظر، ورُبَّما يُمثِّل جزءًا من الحقيقة. فالتأييد باستمرار في كل الحالات قد يضر، وكذلك المعارضة باستمرار. ولكن اجتماع التأييد والمعارضة معًا هو صورة الديمقراطية...
حقوق المواطن في بلده، هو جزء من الحقيقة، وواجب المواطن نحو وطنه هو الجزء الآخر. والمعروف أنَّ كل حق قد يقابله واجب أو واجبات. هذا بالنسبة إلى الوطن بصفة عامة، ويمكن تطبيقه أيضًا في نطاق الأسرة. فالابن مثلًا له حقوق يؤديها له والداه، وفي نفس الوقت عليه واجبات حيالها. ونُطبِّق نفس المنطق على العلاقة بين الزوج والزوجة.
وفي العلاقة أيضًا مع اللَّه تبارك اسمه. أنت تطلب منه المغفرة، وهو يطلب منك التوبة. والمغفرة والتوبة متلازمتان... فلا توجد مغفرة بدون توبة، ولا توجد توبة بدون مغفرة...
ما يفعله الإنسان هو نصف الحقيقة، وردود الفعل هو النصف الآخر. فلا ينتظر شخص أن يعمل عملًا، دون أن يكون لذلك رد فعله. وعلى الإنسان الحكيم أن يحسب رد الفعل قبل أن يعمل أي عمل... وهذا الكلام نقوله أيضًا عن السبب والنتيجة. فأمور مُعيَّنة قد تحدث لك، ويكون سببها تصرفات منك أدَّت إلى ذلك...
فإن مررت على حقل في موسم الحصاد، ووجدت فيه خيرًا كثيرًا، فاعرف أنَّ هذا هو نتيجة طبيعية لِمَا بُذِلَ لأجله في موسم الحرث والبذور والغرس. والعكس صحيح، وفي ذلك يقول الشاعر:
إذ أنت لم تزرع وأبصرت حاصدًا ندمت على التفريط في زمن البذر
ونفس الوضع نقوله عن أي تلميذ في الدراسة والنجاح. أتريد أن تنجح، هذه نصف الحقيقة. أمَّا النصف الآخر فهو أن تذاكر وتدرس وتراجع، وتداوم على ذلك...
قد يقول شخص: "هذه القصة جميلة، وقد بدأت قراءتها". نقول له: انتظر حتى تصل إلى نهايتها ومغزاها لكي تحكم عليها. والمَثل يقول: "نهاية أمر خير من بدايته". إنَّ البداية جزء من الحقيقة، والمهم هو النهاية...
نقول هذا أيضًا على أيَّة مباراة. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). لا نحكم عليها من جهة بدايتها، بل بنهايتها. وبنفس الوضع لا نستطيع أن نحكم على سياسة ما إلا بعد أن نرى نتيجتها: هل نجحت أم فشلت؟ والكلمة التي تقال، نحكم عليها من جهة تأثيرها ونتائجها.
قد يحزن شخص، ويقول: "تجارب كثيرة أصابتني". فنقول له: التجربة هي نصف الحقيقة. أمَّا النصف الآخر فهو البركة التي يمنحها اللَّه لِمَن يحتمل التجربة. كذلك فإنَّ عذابات الشهداء هي نصف الحقيقة. أمَّا النصف الآخر فهو المجد الذي يمنحه اللَّه للشهداء مكافأة على استشهادهم.
من ناحية أخرى، رُبَّما شخص منتحر يرى من الموت يُخلِّصه من شقاء حياته. هذه نصف الحقيقة. أمَّا النصف الآخر فهو مصيره بعد الموت كإنسان قاتل قد قتل نفسه!
قد يقول البعض: "إنَّ الشر ينمو في الأرض". فنقول له: هذه نصف الحقيقة، أمَّا نصفها الآخر، فهو أنَّ الخير أيضًا. كلاهما ينميان معًا... مع اختلاف النسبة.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/5hsgyjw