ليس الدين مجرد معلومات، أو مجرد امتلاء من المعرفة الدينية. فالمعرفة وحدها لا تكفى... ماذا يستفيد الإنسان إن كان يعرف كل المعلومات عن الفضيلة، دون أن يسلك فيها؟!
إننا نقرأ الكثير من الدروس الروحية، ونستمع إلى الكثير. ولكن المهم هو ماذا نفعل؟ وما هو تأثير كل هذه المعلومات على حياتنا العملية؟ هل اكتفينا بالمعرفة، أم اهتممنا أن نحوّل تلك المعرفة إلى حياة؟
وهذه هي فائدة التداريب الروحية: تحويل كل المعارف والاشتياقات الروحية إلى ممارسة وعمل والى حياة.
يدخل بها الإنسان في مواجهة عملية مع نفسه، فيعرف حقيقتها، ويدرس ضعفاته ونقائصه وأخطاءه، ويعرف ما هي أسباب أخطائه، وما هو طريق مقاومتها، وما هي العقبات، وكيف يمكن الانتصار عليها؟؟ وهكذا لا يقف عند حدود المعرفة الدينية، ولا يكتفي بمجرد الاشتياقات إلى الفضيلة، إنما يتدرب عمليًا عليها، لاكتساب فضائل جديدة، أو للنمو روحيًا. وبالتدريب يبدأ في أن يجاهد مع نفسه، كما يطلب معونة من الله تسنده وتنميه..
إن الأبرار -في سموّهم الروحي- لم يصلوا إلى درجاتهم العالية دفعةً واحدة. بل تدربوا حتى وصلوا، بجهاد وتعب، وعلى مدى زمني..
فلا يجوز لنا أن نأخذ ما كُتب عن قممهم الروحية كأنه نقطة بدء لنا! ولا نبدأ نحن بما وصلوا إليه في نهاية جهادهم، بل نتدرج... وإن كنا نشتاق إلى اقتفاء أثرهم، واقتناء فضائلهم، فلنتدرب على ذلك خطوة خطوة..
حسن أن يشتهى المرء الحياة الفاضلة. ولكن عليه أن يسير في هذا الطريق بحكمة. وحبذا لو كان ذلك تحت توجيه مرشد روحي قد اختبر ونجح..
والتداريب الروحية تدل على أن صاحبها سهران على خلاص نفسه...
لا تلهيه مشاغل الدنيا عن التفكير في الأبدية ومداومة العمل لأجلها. فهو يحاول باستمرار أن يكتشف أخطاءه، أو الأخطاء التي يكشفها له غيره، ويعمل على تفاديها. لأنه بدون ذلك لا يمكنه أن يتدرب على تركها...
فلا تتضايق إذن ممن يظهر لك عيبًا فيك. بل استفد من هذا الكشف لكي تتخلص من هذا العيب. وأنت من ذاتك أفحص نفسك في ضوء وصايا الله، وأعرف ما ينقصك حتى تجاهد في اقتنائه...
واحذر من تبرير نفسك، ومن تغطية الأعذار بالأخطاء:
فإن عمى الخطأ، هو أن يرى الإنسان نفسه بلا خطأ، وأن يكون بارًا في عينيّ نفسه!! والذي يبرر نفسه، يبقى دائمًا حيث هو، ولا يُصلح من ذاته شيئًا... وكثير من الناس لهم طباع خاطئة ثابتة فيهم، لا يرجعون عنها على مدى الزمن. ذلك لأن نفوسهم -للأسف- جميلة جدًا في أعينهم! وهم يرون أنهم دائمًا بلا عيب ولا نقص. ويهاجمون كل من يُظهر لهم عيبًا فيهم، ويعتبرونه عدوًا أو مدعيًا...
أما أنت فلا تكن كذلك، بل حاسب نفسك بدقة شديدة، ولا تعذر نفسك مطلقًا. فسوف يأتي وقت تقف فيه أمام الله بلا عذر...
وإن كنت تستحي من أن يكشف لك الغير خطأً فيك، فلا شك أنك لا تستحي بنفس القدر إذا ما اكتشفت أخطاءً في نفسك..
لهذا أجلس مع نفسك، وكن صريحًا مع ذاتك إلى أبعد الحدود. ولتكن مقاييسك الروحية عالية في مستواها. ولا تكتفِ بالمستوى العادي، بل حاول أن ترقى بالمقياس الروحي الذي تقيس به نفسك. واطرق نقط الضعف التي فيك، والتي تكشفها لك قراءتك عن سير الأبرار وفضائلهم، أو التي تدركها من سماعك بعض العظات التي تشعر أنها تمس حياتك..
وثق انك لو دربت نفسك على فضيلة واحدة كل أسبوع، أو حتى كل شهر، لأمكنك أن تقتنى عددًا كبيرًا من الفضائل كل عام، أو أن تثبت فيها بكثرة الممارسة. وأعلم أن الفضائل مرتبطة ببعضها البعض. فإن مارست إحداها، ستقودك إلى فضائل غيرها ما كنت قد وضعتها في تدريبك. ذلك لأنها جميعها في ارتباطها مثل حلقات في سلسلة واحدة..
وثق أنك إن بدأت في تداريبك الروحية، فإن نعمة الله ستبدأ معك.
فإن الله لن يتركك وحدك في تداريبك، لأنك قد أظهرت بها أنك جاد وملتزم بالسلوك في الحياة مع الله. وبشعورك هذا سوف تتجاوب معك المعونة الإلهية. وإن كان الشيطان يحاول أن يحاربك بشتى الطرق أن تكسر التدريب أو تنساه، فإن النعمة سوف تسندك لكي تتذكره وتنجح فيه. والمهم هو أنك لا تتراجع ولا تتراخى. بل كن حازمًا مع نفسك..
وإذا دربت نفسك على فضيلة ما، فأعرف أن الثبات فيها هو أهم بكثير من مجرد اقتنائها...
لأنه ما أسهل أن تستمر في إحدى الفضائل يومين أو ثلاثة أو أسبوعًا.. ثم تتخلى عنها. إنما المهم أن تستمر فيها، حتى تصبح هذه الفضيلة عادة فيك، أو تتحول إلى طبع. وهكذا يحتاج كل تدريب إلى مدى زمني حتى يرسخ في أعماق نفسك. لأن كل تدبير لا تثبت فيه زمنًا، يكون بلا ثمر..
لأن الزمن والاستمرارية هما المحك العملي لمعرفة عمق الفضيلة فيك. والوقت أيضًا يعطى فرصة لمعرفة المعوقات التي تقف ضد التدريب، ولمعرفة طرق التغلب عليه.
لذلك فإن القفز من تدريب إلى آخر، لا يفيد روحيًا.. وكثيرون يريدون أن يصلوا إلى كل شيء في أقل فترة من الوقت، فتكون النتيجة أنهم لا يصلون إلى شيء، بسبب عدم التركيز..
وليكن التدريب الذي تدرب نفسك عليه واضحًا ومحددًا...
فلا تقل لنفسك: أريد أن أدرب نفسي على حياة الوداعة (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات) والاتضاع. بينما تجد عبارة (الاتضاع) غير واضحة أمامك في معناها وتفاصيلها، وهكذا لا تفعل شيئًا! بل ادخل في التفاصيل مثلًا، وقل "أريد في حياة الاتضاع أن أدرب نفسي على أمر واحد فقط وهو إنني لا أمدح نفسي". فإن أتقنت هذا الأمر زمننًا، تقول "أدرب نفسي على ألا أسعى وراء مديح الناس". فإن أتقنت هذا أيضًا، تقول "أدرب نفسي على شيء آخر، وهو أنه إذا مدحني آخر، لا أشجعه على الاستمرار، أو أغيرّ مجرى الحديث. أو على الأقل لا أسرّ بالمديح، بل أتذكر بعض ما أعرفه عن نقائصي، لكي تتوازن مع ما سمعته من مديح"..
ولا تدرب نفسك على محبة الآخرين دون أن تعرف مثلًا تفاصيل هذه الفضيلة. وإن عرفتها، أسلك فيها واحدةً فواحدة..
وليكن تدريبك الروحي في حدود إمكانياتك، تستطيع تنفيذه عمليًا...
ذلك لأن البعض قد يضع لنفسه تدريبًا فوق مستوى إرادته، أو لا تساعده عليه ظروفه! أو في تدربه على فضيلة ما، يقفز إلى مستوى درجة عالية لا يمكنه الاستمرار فيها. وقد يصيبه ذلك بنكسة فيما بعد ترجعه إلى الوراء خطوات...
بل يمكن مثلًا أن يتدرج في التدريب. بحيث لا يأخذ في كل مرة إلا جزءًا واحدًا من تفاصيله، كما ذكرنًا في حديثنا عن الاتضاع...
ولتكن تداريبك في صميم حياتك العملية الواقعية...
فإن ما يصلح لغيرك من التداريب، قد لا يصلح لك أنت... وكذلك لتكن تداريبك في حياة الفضيلة تناسب قامتك الروحية، وتتفق معك حياتك وظروفك من كل النواحي.
ولا تبالغ في تقييم مقدرتك، بل اسلك باتضاع وحكمة...
وإن فشلت في تدريبك في وقت ما. فاستفد من فشلك بأن تعرف أسبابه، وتحاول أن تتحاشاه فيما بعد. وليكن ذلك سببًا في اتضاعك، وأيضًا يدفعك إلى الإشفاق على الذين يفشلون...
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/59bxk29