ثم لماذا أيضًا يقام الجسد، على الرغم من كل من يقال ضده؟!
ما أكثر الخطايا التي تنسب إلى الجسد، وما أكثر الفضائل التي تنسب إلى الروح. حتى أنه كثيرًا ما يوصف الشرير بأنه إنسان جسداني، ويصف البار بأنه إنسان روحاني..! فلماذا يقام الجسد إذن؟!
ومع أننا لا ننكر أن الجسد طبيعته مادية، والروح طبيعتها روحية. ومع ذلك فغالبية الأخطاء يشترك فيها الجسد والروح معًا. وأيضًا قد تكون بعض الأخطاء من خطايا الروح وحدها كالكبرياء مثلًا أو الحسد. وإن كان الجسد قد يعبر أحيانًا عن إحدى هاتين الخطيتين وأمثالهما بطريقته الخاصة.
على أننا لا نستطيع أن نقول إن الجسد شر في ذاته.
لأنه لو كان كذلك ما خلقه الله.. فالله لا يمكن أن يخلق شرًا. كما أنه مر وقت على البشرية -قبل الخطيئة- كان الجسد والروح كلاهما بارين. ولو كان الجسد خطيئة في ذاته، ما كنا نكرم رفات القديسين وعظامهم ونتبارك بها. أيضًا لو كان الجسد شرًا في ذاته، ما كان يقيمه الله.. إنما الجسد بطبيعته قابل للميل إلى الخير والشر، حسبما توجهه إرادة الإنسان. وكذلك الروح..
"الجسد يمكنه أن يعمل الخير. ولذلك قال الكتاب "مجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله" (1 كو 6: 20).
إذن يمكن أن نمجد الله بأجسادنا.
مثال ذلك الجسد العابد، الذي يركع أمام الله، ويسجد، ويرفع يديه إلى فوق بالصلاة ويقرع صدره ندمًا على خطاياه. الجسد الذي يضبط نفسه بالصوم. والذي يستخدم لسانه في التسبيح والترتيل والصلاة، وفي تلاوة كلام الله وإنشاده.. كما يستخدم لسانه في الوعظ والتعليم والنصح والكلمة الطيبة.. وهو الذي يبذل ذاته من أجل وطنه، وهو الذي يمد يده ليعطى للفقير وللمسكين.
فلماذا ننظر إليه في إقلال لشأنه؟! أليست أصابع الفنان هي التي تتحرك على آلة موسيقية، فتتحرك معها القلوب، ويمكنها أن تحركها نحو الخير. أليست أصابع الفنان تتحرك بالرسم أو النحت أو التصوير، فتقدم فنًا -إن أرادت- تحرك به القلوب نحو الخير (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات).
الجسد إذن ليس شرًا في ذاته، إنما يمكن أن يعمل في مجالات الخير أو الشر، والروح كذلك تعمل في كليهما. ويشتركان معًا.
إن بعض الذين ينكرون القيامة، يبدون في أسلوبهم احتقار الجسد.
على اعتبار أن الجسد هو من المادة، بينما الروح لها جوهر يسمو بما لا يقاس عن طبيعة الجسد. ولكننا نقول إنه على الرغم من أن الإنسان من طبيعتين أحداهما روحية والأخرى مادية، وإلا أنهما اتحدا في طبيعة واحدة هي الطبيعة البشرية.
والجسد على الرغم من أنه من المادة، إلا أنه يستطيع أن يسلك بطريقة روحانية، إذا اشترك مع الروح في العمل الروحي.
ومثل الجسد العابد، الجسد الحر غير المستعبد لعادة.
لا تستعبده عادة رديئة، كالتدخين، أو السكر ، وإدمان الخمر أو إدمان المخدرات، وغير خاضع لأية عادة شهوانية، لا شهوة الزنا أو البطنة.. إنما هو جسد منضبط.
مثل هذا الجسد، هو جسد طاهر.
لا يسمح لنفسه أن يقع في دنس أو نجاسة، ولا أن يوقع غيره في خطيئة ما. لا يسعى إلى الخطيئة. وإن طرقت بابه، لا يقبلها. كما فعل يوسف الصديق الذي رفض الدنس حينما سعى ذلك إليه. وقال "كيف أفعل هذا الشر العظيم، وأخطئ إلى الله؟!" (تك 39: 9).
وهكذا يكون الجسد الطاهر محتشمًا أيضًا.
ومن الأجساد الخيرة، الجسد الذي يتعب لأجل عمل الخير..
سواء في رفع مستواه الإنساني، كما يقول الشاعر:
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجساد
ومن هذا النوع أيضًا: الجسد الذي لا يتكاسل ولا يهمل في أداء، أو في القيام بمسئولية تعهد إليه، أو يتطوع من ذاتها لأدائها. والذي يسرع لإنقاذ غيره بكل همة. ويكون موضع ثقة في كل ما يقوم به من عمل. إنه جسد خير.
إنه جسد خدوم، يبذل ذاته وراحته لكي يريح غيره.
نوع آخر من الأجساد الخيرة، الجسد الذي يقبل تحمل الآلام.
مثل ذلك الشهداء الذين يضحون بأجسادهم، أو يفقدون بعض أعضائهم من أجل وطنهم أو دينهم، أو من أجل إنقاذ الآخرين كعمال المطافئ مثلًا، أو منقذي الغرقَى، أو المتبرعين بدمائهم أو بأعضائهم لأجل حياة غيرهم.. كلها أجساد تعمل في مجال الخير لنفع الغير بأسلوب من التضحية أو الفداء.
نوع آخر من الأجساد الفاضلة: الجسد الوديع المتواضع.
الذي لا يتعالى على غيره، ولا يمشى في الأرض مرحًا، ولا يجلس في كبرياء، ولا يسعى إلى الرفاهية والمتعة على حساب غيره، ولا يتهافت على المتكآت الأولى، ولا يزاحم الناس في طريق الحياة. بل يقدم غيره على نفسه إيثارًا وحبًا وتواضعًا...
وبالإضافة إلى كل هذا نقول إن الجسد هو المعبر العملي عن مقاصد الروح.
إن كانت الروح هي السلطة التشريعية في حياة الإنسان، يكون الجسد هو السلطة التنفيذية، والضمير هو السلطة القضائية.
الجسد هو الكيان المرئي للإنسان، وهو العنصر العامل.
الروح العاقل تفكر، ولكن الذي ينفذ هو الجسد. ولولا الجسد، لكان عمل الروح هو مجرد وضع نظري لا يزيد عنه شيئًا.
كل العنصر العملي واقع على الجسد.
قد يضع الفكر خططًا لمخترعات أو تصميمات لها. ولكن الجسد هو الذي يحولها إلى واقع عملي. والأمور النظرية التي تشاءها الروح، الجسد هو الذي يجعل لها وجود عملي.
الروح والعقل يقدمان مفهومًا للخير. والجسد هو الذي يعمل الخير. هو شريك للروح يعملان معًا: الروح للتخطيط، والجسد للتنفيذ.
الجسد هو الذي يعمر الأرض، لولاه ما عمرت.
الفكر وحده لا يقوم بتعمير، بدون جهاز تنفيذي.
الروح قد يكون لها بعض الأماني والأحلام. ولكن الذي يحققها لها هو الجسد. وإلا بقيت في حدود الرغبات وليس غير..
الجسد أيضًا هو سبب التكاثر في الكون.
الروح وحدها ليست مصدرًا للتكاثر.
إذن لولا الجسد ما عمرت الأرض، سواء من جهة العمارة أو الصناعة أو الزراعة وما إلى ذلك. ولولاه ما عمرت أيضًا بالبشر..
إننا لا نستطيع أن نفصل الجسد عن الروح في كل تلك الأمور والأعمال. والله لا يفصلهما أيضًا في الأبدية.
في العالم الآخر يعود الإتحاد بين الجسد والروح. فلولا هذا الاتحاد لا يكون الإنسان إنسانًا. طبيعته خلقها الله هكذا..
ولولا فني الجسد ولم يقم، فأي فرق إذن بينه وبين جسد الحيوان؟! بينما جسد الإنسان هو أكثر الأجساد سموًا في تركيبه، وهو أيضًا أجمل الأجسام وأكثرها قدرة، وله طاقات متعددة.
الجسد هو الوعاء الذي يحوى الروح.
وكثيرًا ما يكون الجسد مطيعًا للروح منقادًا لها، شريكا ً لها في الخير، غير مقاوم لها.. متساميًا فوق مستوى المادة في نسكياته وزهده.
بل إن الروح تزداد درجة، حينما تسلك سلوكًا روحيًا ساميًا على الرغم من اتحادها بمادة الجسد. فتنتصر على هذا العائق المادة، وتجعل الجسد المادي يسلك معها سلوكًا روحيًا. فيتقدس باشتراكه معها في محبة الله، وفي محبة الناس، وفي عمل الخير..
بالقيامة يلتقي هذا الصديقان -الروح والجسد- اللذان عاشا في عشرة عجيبة طوال العمر الأرضي ليكملا عشرتهما معًا في العالم الآخر، مشتركين في دينونة واحدة.
وفى القيامة سيتحول هذا الجسد المادي إلى جسد روحي (1 كو 15) ويتجلى في طبيعته، ويسلك كما يليق بسكان السماء.
مبارك هو الرب الحكيم في خلقه للإنسان، العادل في معاملته له جسدًا وروحًا، الذي يستخدم الكل للخير.
أعود فأكرر تلك الآية الجميلة "مجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله" (1 كو 6: 19).. نعم لقد خلق الله الجسد لكي يكون له: ينفذ مشيئته على الأرض، ويقوم لينال مكافأته في السماء.
وانتهز فرصة هذا العيد، لأطلب أن يعيده الله علينا كل عام بالخير والبركة، وأن يقدسنا الله جسدًا وروحا، وأن يجعل السلام يسود منطقة الشرق الأوسط، هذه التي شهدت أول قيامة ممجدة.. نطلب من الله القادر على كل شيء، أن يعيد إليها الهدوء والسلام وكل عام وجميعكم بخير.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/vhngt6s