عن التراث الروسي المسيحي
تحت عنوان "المحامى والمليونير"، كتب لنا جناب القس أغسطينوس حنا قصة، سبق فترجمها السيد/ محمد حسنين هيكل رئيس مجلس الشيوخ المصري الأسبق، ونشرها في مجلة الهلال سنة 1927، عن روائع الأدب العالمي للقصصي الروسي أنطون تشيكوف؛ تحت عنوان "جاذبية الكتاب المقدس".
قد رأيت أن أعيد كتابتها بأسلوب يناسب فتياننا الصغار مع التصرف.
في صالة القصر الضخمة جلس بعض رجال القانون مع رجال الأعمال ورجال السياسة يناقشون موضوع: "العدالة والحكم بالإعدام".
وقف أحد المحامين الشباب المدافعين عن إلغاء الحكم بالإعدام يقول:
"إن كان الأشرار لا يبالون بأخوتهم فيقتلونهم، فهل يتشبه المجتمع بهم فيرتكب جريمة قتل أخرى مقابل جرائم المجرم؟!
أما يكفي أن يُحكم عليه بالسجن المؤبد، فنحمي المجتمع منه دون ارتكاب جريمة من جانبنا، خاصة وأنه مهما بلغت العدالة على الأرض فإنها كثيرًا ما تخطئ وتتأثر بشهادة الزور والتزوير والعوامل الشخصية. إنه خير للعدالة أن تترفق بألف مخطئ عن أن تقتل بريئًا واحدًا.
قولوا لي:
إن حكمنا بإعدام شخصٍ، ثم ظهر دليل جديد على براءته بعد موته، كيف نُصلح الخطأ؟"
احتدم الحوار جدًا بين مؤيدين ومعارضين لحكم الإعدام! تزعم المليونير الشيخ صاحب الدعوى والمضيف الرأي المساند لعقوبة الإعدام، وصار يقدم الحجة تلو الحجة. قال:
"إنني أشعر بالألم مع كل نفس متألمة؛ لن أحتمل أن أرى إنسانًا يُحكم عليه بالإعدام، لكنني أتساءل: إن أُلغى الحكم بالإعدام على القتلة المجرمين الذين لا يرحمون أخوتهم، ولا يستجيبون لنداء الدموع المرة... يفقد المجتمع قدرته على السيطرة، وتتحول الإنسانية إلى غوغاءٍ، فيقتل العنفاء أخوتهم بلا رحمة، وليس من يردعهم. هل يقف القضاء هكذا مكتوف الأيدي؟
لقد فوضت العدالة الإلهية القضاء سلطة الحكم بإعدام المجرمين لردعهم كما في (سفر التكوين 6:9، وسفر الخروج 18).
حكم الإعدام يعطى أمانًا بين الناس، هذا بجانب أن السجن المؤبد يكلف الدولة مبالغ باهظة لإطعام المجرمين وعلاج سافكي الدماء دون مبررٍ.
ألا ترون معي أن السجن المؤبد أشد قسوة من الإعدام، لأنه قتل بطيء، ودفن بالحياة، بينما يستغرق تنفيذ حكم الإعدام ثوانٍ أو ربما دقيقة واحدة!"
ثار المحامى الشاب جدًا وصار يطالب بإلغاء عقوبة الإعدام، مهما كلف المجتمع من مالٍ أو جهدٍ حتى لا يُقتل برئ واحد ولو بغير قصد!
دخل الاثنان في تحدٍ شديدٍ، وإذ طلب المحامى أخذ الأصوات، حاز رأيه الأغلبية. شعر المليونير بخيبة أملٍ، عندئذ قال للمحامى:
" إنك لم تذق السجن ليلةً واحدةً، لذلك تظن أن السجن المؤبد أكثر رحمة من الإعدام.
إنني مستعد أن أتنازل عن كل ثروتي فورًا أمام الجميع إن قبلت أن تُسجن ليس مدى الحياة، بل لمدة خمسة عشر عامًا، لتعرف أن السجن المؤبد أقسى من الإعدام!"
أجاب المحامى: "لقد قبلت التحدي وأنا موافق على ذلك!"
حاول الحاضرون تخفيف حدة التوتر دون جدوى، فقد أصر الاثنان على موقفهما، فأحضر المليونير ورقة وقدمها للمحامى، طالبًا منه أن يكتب شروط العقد بينهما.
أمسك المحامى قلمه ليكتب شروط العقد، فجاء هكذا:
عقد
بند 1: أقر أنا الموقع أدناه... المقيم بمدينة... إنني أتنازل عن كل ثروتي التي تقدر بمبلغ... (حوالي 10 مليون دولارًا)، بما في ذلك القصر الذي أقطن فيه إلى الأستاذ....، وذلك مقابل قبوله الحبس الانفرادي لمدة 15 عامًا في الغرفة الكائنة بحديقة القصر.
بند 2: يقوم الطرف الأول بالإنفاق على الطرف الثاني أثناء مدة حبسه، وتدبير كل ما يحتاج إليه من طعامٍ وشرابٍ وكتبٍ وعلاجٍ وحراسةٍ...
بند 3: لا يجوز للطرف الثاني مغادرة الحبس مهما دعت الأسباب، وإلا أُعتبر العقد مفسوخًا.
بند 4: يبدأ تنفيذ هذا العقد ابتداء من يوم... وينتهي في يوم....
قُرأ العقد أمام كل الحاضرين وكان الجميع في دهشةٍ مع حزنٍ ومرارةٍ أن ينتهي الحوار بهذا الروح.
وقع الطرفان العقد وأيضًا الشهود. في ابتسامة عريضة قال المحامى للحاضرين: "إنني سأصير مليونيرًا! سأقضي الحبس متهللًا من أجل هذا الثمن الباهظ الذي دفعه هذا الغني..."
كانت عينا المحامى تتطلعان يمينًا ويسارًا في القصر، حاسبًا إياه قصره الذي لم يكن يحلم أن يقتنيه، كما كان يفكر في الملايين التي تنتظره. أما المليونير فتطلع إلى الحاضرين، وفي سخرية قال لهم:
"سترون كيف انه لن يحتمل سنة أو سنتين، ويفقد صحته ونفسيته، إذ يُصاب بخيبة أملٍ!
حقا إن الذي يعيش في الحرية لا يعرف مرارة الحبس!"
عاد الشاب الأعزب إلى بيته وأوصى أحد أقربائه أن يبيع كل ما لديه ويودعه في المصرف (البنك) لحسابه، فقد تصير المحصلة مبلغًا ذا قيمة بعد خمسة عشر عامًا... وإن كانت لا تُحسب شيئًا أمام الملايين التي ينتظرها. لم يكن يفكر المحامى كيف يقضى هذه السنوات في زنزانته؛ فقد تأكد أن ترقُبه لامتلاك القصر واستلام الملايين يحول هذه السنوات إلى لحظات عابرة.
دخل المحامى الزنزانة، ووقف الحارس خارج الباب. تطلع المحامي من النافذة نحو القصر ليتأمل فيه... ومرت دقائق ليترك النافذة ويرتمي على الكرسي المجاور للسرير! أمسك بكتابٍ يقرأ فيه، لكن بدأت الأفكار تجول في خاطره:
"تُرى هل أنا على صوابٍ؟ أم هو قرار جنوني متهور؟
هل قراري هو طيش شباب، يكلفني سعادتي كلها؟!
حقا إنها ملايين!
هل لي أن أرجع في قراري قبل فوات الأوان؟
وماذا يقول الناس عني؟
لكن بعد خمسة عشر عامًا، هل أجد الزوجة المناسبة التي تقبلني لأجل شخصي وليس من أجل الملايين؟!
هل تنجب لي أطفالًا يرثون الملايين؟!
هل أعيش حتى أرى أطفالي رجالًا ونساءً؟!"
أحنى الشاب رأسه قليلًا ليسأل نفسه: "هل لي أن أرجع في قراري قبل فوات الأوان؟ وماذا يقول الناس عني؟"
← ترجمة القصة بالإنجليزية هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت: The Millions Destroyed.
كانت الدقائق تمر عليه كسنواتٍ طويلة، تحاصره الأفكار من كل جانب. بعد عام قال في نفسه:
"إنني لن أتراجع!
سأستفيد من عزلتي!
لأقرأ وأتعلم لغات جديدة!
أحسب نفسي في معهدٍ، أتعلم الصبر مع اللغات!"
طلب المحامى من المليونير كتبًا ووسائل تعليم، فأحضرها له.
عبرت السنتان الثانية والثالثة وإذا بالضجر يحاصره ولم يعرف ماذا يفعل. أخيرًا طلب من المليونير أن يتعلم الموسيقى لتشغله في عزلته. بعث المليونير مع الحارس آلات الموسيقى، لكن الشاب طلب أستاذًا للموسيقى يدربه كل يوم. استجاب المليونير لطلبه، وبدأ الشاب يعزف الموسيقى بفرح. لكن بعد فترة حاول أن يتحدث مع أستاذ الموسيقى في غير الموسيقى فرفض، قائلًا إن التعليمات الصادرة إليه ألا يخرج حديثه عن عمله كمدرسٍ للموسيقى!
استسلم المحامى للأمر، وصار يعزف الموسيقى لمدة عامين، لكنه بدأ يمل جدًا آلات الموسيقى، حاسبًا إياها ثقلًا في زنزانته يريد الخلاص منها. إنها لا تتحدث معه، ولا تشاركه مشاعره وأحساسيه! ظنها أنها أفقدته إنسانيته!
في بدء العام السادس طلب كتبًا عن الديانات الأخرى ليشغل وقته، فأُستجيب طلبه، وبدأ يقرأ عامًا كاملًا، فاشتاق إلى الكتاب المقدس. طلب الكتاب المقدس في السنة السابعة، وبدأ يقرأ فيه، لكن ليس كما كان وهو طفل حيث كان والداه يلزماه بالقراءة. صار يصرخ إلى الله أن يعلن له ذاته من خلال كلمته...
مرّ عام كامل وانتظر المليونير من المحامى أن يطلب شيئًا جديدًا في بدء العام الثامن، لكن المحامى لم يطلب شيًئا.
دخل الحارس الزنزانة ليسأل المحامى: "(فلان) يسألك: ما هي طلبتك في هذا العام؟" أجاب المحامى: "أشكره على اهتمامه ومحبته... قل له إنني لم أنتهِ بعد من قراءة الكتاب المقدس! لست محتاجًا إلى شيء!"
انكب المحامى على القراءة، وأحس بحضرة الله التي تملأ زنزانته التي صارت سماءً مفرحة، فلم ينشغل بكل ما حوله.
عبر عام وأرسل المليونير إلى المحامى يسأله عن طلبه، فجاءت الإجابة كالسنة السابقة. وجاء العام التالي وتكرر الأمر، فارتبك المليونير جدًا وشعر انه يومًا ما يفقد كل ما لديه.
أسرع إلى الحارس يسأله عن حال المحامى، فأجابه:
"إنه نادرًا ما يطلب مني حتى الطعام.
لم يعد يتطلع من النافذة نحو القصر، ولا تظهر عليه علامات القلق أو الضجر، بل صار وجهه بشوشًا، وملامحه مملوءة سلامًا.
يقضى الساعات الطويلة راكعًا أمام الكتاب المقدس، ليمزج قراءته بصلواته وتسابيحه!
يكاد صوت التسبيح لا ينقطع نهارًا وليلًا!
أقول لك الحق، إنني أراه كملاك الرب!
أحسب نفسي سعيدًا أن أستمع إلى صوته الذي يحمل تهليلات قلبه الداخلية!
أخشى أن أقول: إنني أحسده، إنه كما في السماء عينها!
لأجل أمانتي لا أتحدث معه في شيء كطلبك، لكنني أسمع صوت أعماقه تسحب كل كياني إلى قوة عجيبة في داخله!
أظنه أسعد إنسانٍ على وجه الأرض!
ألعله حسب نفسه راهبًا أم متوحدًا؟ إنه في نظري فاق الكثير من المتوحدين!"
اقترب موعد نهاية العقد، إذ لم يبقَ سوى شهر واحد ويتسلم المحامى كل ممتلكات المليونير! طار النوم من عينيْ المليونير، إذ قال في نفسه: "يا لي من غبي! كيف أفقد كل ما ورثته وما جمعته كل حياتي بسبب قرارٍ متهورٍ كهذا؟! لكن... ما هو الحل؟"
بدأ الرجل يتحرك في حجرة نومه، وقد ضاق به الأمر جدًا، صار كمن في زنزانة، ليس من يشاركه آلامه، أو يشعر بمرارة نفسه. تطلع من النافذة وكان الجو عاصفًا، والثلوج تنزل بشدة في وسط ظلام الليل الدامس. خطرت بذهنه فكرة، سرعان ما بدأ ينفذها.
دخل إلى المطبخ واستل سكينًا ضخمة وأخفاها بين ثيابه، ثم أخذ مفتاح الزنزانة، ووضع في قلبه أن يتسلل نحو الرجل ليقتله.
نزل المليونير إلى الحديقة ليجد الحارس قد ترك الزنزانة بسبب العاصفة الثلجية، وفي هدوءٍ شديدٍ فتح الباب، وتسلل على أطراف قدميه.
وجد المحامى ملقيًا برأسه على المائدة يغُط في نومٍ عميقٍ، وأمامه مصباح خافت.
أمسك الرجل بالسكين ليضرب عنق المحامى، لكنه فجأة توقف، فقد رأى ورقه جاء فيها: "إقرار بالتنازل". أمسك المليونير بالورقة، واهتزت أعماقه فيه!
بدأت يد المليونير الكهل ترتجف، ووقف يحملق بعينه في الورقة التي جاء فيها:
إقرار بالتنازل
أقر أنا... المقيم بالزنزانة في قصر صديقي العزيز السيد... إنني وأنا في كامل قواي العقلية، وبمحض اختياري، أتتنازل عن حقي في كل ما يملكه صديقي صاحب القصر.
إنني أشكر محبته، فقد استضافني قرابة خمسة عشر عامًا، لم يتركني فيها محتاجًا إلى شئ.
حقًا لقد شعرت في بدء حياتي بالملل، وتعلمت خلال عامين بعض اللغات ولم أستفد الكثير منها.
تعلمت لمدة عامين الموسيقى، لكنها لم تنتزع عنى الملل.
قرأت في مقارنات الأديان، لكنني شعرت بالحاجة.
أخيرًا قرأت الكتاب المقدس، ووجدته رسالة حية يكتبها الله لي شخصيً! شبعت نفسي بكلمة الله، فلم أعد بعد محتاجًا إلى شيء!
انفتح أمامي باب في السماء، فلم تعد الأرض كلها تساوى شيئًا! صارت الملايين والقصر في عينيْ نفاية لا أريد منها شيئًا!
حول زنزانتي إلى سماء مفرحة! ووحدتي إلى اتحادٍ مع من تشتهى الملائكة أن تطلع إليه!
كم أنا سعيد وأنا أترك حقي لصديقي...
أتركه وأهرب لئلا إن انتظرت حتى النهاية قد يتهمني أقربائي بالجنون واختلال العقل، فيحجروا علىّ، ويتسلموا مال صديقي ظلمًا!
عبارة إلهية واحدة حولت عينيْ عن هذه الملايين وهى: "بعرق جبينك تأكل خبزك" (تك 19:3)... فكيف أقتنِ ما هو ليس لي بغير حقٍ؟!
إنني أطلب من صديقي العزيز أن يتمتع بكلمة الله التي تمتعت بها في زنزانته! ليهب من أمواله نصيبًا لشراء الكتاب المقدس ويقوم بتوزيعه حتى يذوق الكل ما أذوقه!
ما أن قرأ المليونير هذه الورقة حتى سقطت السكين من يده، وارتمى على المحامى باكيًا... استيقظ المحامى في دهشةٍ ليجد المليونير يقّبله!
بكى الاثنان ودموع الحب تنهار منهما بلا توقف.
طلب المليونير أن يتنازل عن نصف ممتلكاته للمحامى، أما المحامى فأصّر ألا يقبل (سنتًا) واحدًا...
وأخيرًا خرج المحامى ليعيش مع صديقه في قصره، ينعمان بالإنجيل الحي والحب السماوي الفائق!
_____
* Robert Llewelyn, The Joy of the Saints, Spiritual Readings throughout the Year, Springfield, Illinois, 1989, p. 171.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/ypp68fv