في السبعينيات إذ قمت بزيارة إحدى بلاد المهجر وكان تعداد الأقباط فيها لا يتعدى أربعين أسرة، طُلب مني أن افتقد ثلاث عائلات أصيب عائل كل منها بمرض قلبي، ذلك أن الثلاثة قد جاءوا إلى الهجرة، وإذ خشوا من المستقبل كان كل منهم يعمل في ثلاثة أشغال... يكاد كل منهم لا ينام أكثر من أربع أو خمس ساعات. كانوا لا يلتقون مع زوجاتهم ولا أطفالهم. وكان كل منهم في الثلاثينيات من عمره. تذكرت القصة اليونانية المشهورة عن ميداس ملك فيريجيا القديمة (تركيا) الذي عاش في القرن الثامن ق.م.
كان ميداس أغنى رجل في العالم في ذلك الحين، يجمع الكثير من الذهب، ويضعه في خزائن بأبواب حديدية صلدة. لم يكن ميداس يعرف الراحة، بل يقضي أغلب وقته في العمل لجلب الذهب أو في التطلع إلى الذهب الذي في خزائنه.
بسبب عشقه للذهب لقب ابنته الوحيدة "مريم الذهبية" هذه التي أحبها جدًا.
كانت الأميرة الصغيرة لا تبالي بالذهب الذي يجمعه والدها، إنما تهتم بشعرها الذهبي، وتتطلع إلى أشعة الشمس عند الشروق والغروب لترى في لونها الذهبي جمالًا خاصًا. تنزل إلى الحديقة لتتمتع بالأزهار الجميلة، وتقطف ثمار الفواكه، وتجد لذتها في الطبيعة التي أوجدها اللَّه لها.
إذ دخل الملك ميداس إلى مخازنه يومًا ما وأغلق الأبواب جيدًا، وبدأ يتفحص صناديق الذهب، ويقوم بعرضها على مائدة ضخمة يلمس الذهب بفرح شديد، وبقلب مملوء طربًا. فجأة قطع صمته في الخزانة، إذ صار يردد بصوت مرتفع ما جال في فكره:
"حقا ميداس، أنت أغنى رجل في العالم!
منْ مِنَ البشر لديه مثل هذا الكم من الذهب!
إني غني... لكن لن يستريح قلبي!
لن استريح حتى اقتني كل ذهب العالم!
ما دام يوجد جرام ذهب في يد آخر غيري،
لن تهدأ نفسي!
ترى هل يمكن أن يتحول العالم كله إلى ذهب؟!
هل اقتني كل العالم الذهبي لحسابي؟!"
شعر كأن سحابة قد اجتازت حصون خزائنه، ثم ظهر له ملاك يقول له:
- لديك ذهب كثير أيها الملك ميداس.
- نعم، ولكن هذا الذهب قليل جدًا بالنسبة للذهب الذي في العالم.
- ماذا! أتشعر أنك غير مكتفٍ بما لديك؟!
- مكتفي! مستحيل! إني أقضي الليل أغلبه أفكر ماذا أفعل لأجمع ذهبًا أكثر. إني أشتهي أن يتحول كل ما ألمسه إلى ذهب.
- هل بالحق تريد أن يكون لك ذلك؟
- طبعا أود هذا. ليس شيء يهبني سعادة مثل ذلك.
- غدًا عندما تدخل أشعة الشمس الذهبية من النافذة ستكون لك اللمسة الذهبية.
اختفي الملاك، وفتح الملك عينيه. إن ما حدث لم يكن إلا حلمًا رآه يكشف عما في قلبه.
قال الملك في نفسه: "إنه حلم ممتع، لا يمكن أن يتحقق عمليًا... لكن من يدري لعله يتحقق فعلًا!"
قام الملك من سريره وأمسك بغطاء السرير، وانتظر دقائق لعل الغطاء يتحول إلى ذهب، لكن شيئًا من هذا لم يحدث. بدأت علامات الضيق تظهر على وجهه، وصار يحاول أن يتذكر كل ما رآه وسمعه في الحلم.
بدأت أشعة الشمس تدخل من نافذة حجرته، وإذا بغطاء السرير يصير ذهبًا خالصًا، وصار يلمع بأشعة الشمس. قام الملك متهللًا، وصار يلمس سريره وملابسه وسجاد الحجرة، فصار كل ما حوله ذهبًا. تطلع من النافذة فرأى الحديقة التي تقضي فيها ابتنه المحبوبة أغلب يومها، فقال في نفسه: "سأقدم لابنتي مفاجأة سارة." نزل إلى الحديقة وصار يلمس الأشجار والشجيرات، فتحولت الحديقة كلها إلى ذهب خالص.
عاد الملك إلى قصره، وإذ جلس على مائدة الإفطار أمسك برغيف الخبز فصار ذهبًا. أمسك بكوب الماء فتحول بما يحويه إلى ذهب.
لقد سر بالذهب الذي صار يحوط به من كل جانب، لكنه لم يستطع أن يأكل ولا أن يشرب. صار يصرخ: "ماذا أفعل إني جائع! إني ظمآن! لا أستطيع أن آكل أو أشرب ذهبا!"
فجأة انفتح الباب ودخلت الأميرة الصغيرة وهي تبكي بمرارة.
- ماذا حدث يا ابنتي العزيزة!
- آه يا أبي، لقد صارت كل الأزهار جامدة بلا رائحة ولا حياة، صارت كلها ذهبًا!
- إنها ذهب يا ابنتي، أما تظني أنها أكثر جمالًا وأثمن مما كانت عليه؟
- لا يا أبي، إنها أزهار بلا رائحة، إنها لا تنمو، إني أحب الأزهار الحية!
- لا تضطربي... لتتناولي الإفطار أولًا!
- لكنني أراك لم تأكل يا أبي!
أشعر أنك حزين!
خبرني ماذا حدث يا أبي العزيز؟
ارتمت الأميرة في حضن أبيها والدموع تتساقط من عينيها، وإذ احتضنها تحولت إلى تمثالٍ ذهبيٍ. لم تعد الأميرة الحية، المملوءة حبًا، المبتسمة والمتهللة. لقد تحولت عيناها الزرقاوتان إلى ذهب، بل وكل جسمها حتى ملابسها صارت ذهبية.
سقط الملك على الأرض ولم يعرف ماذا يفعل. وإذا به يشعر كأن إنسانًا يمسك به ويهز كل كيانه.
- أليست هذه هي شهوة قلبك يا ميداس الملك؟! ألست أسعد من في الوجود؟!
- كيف أكون سعيدًا، إني أبأس إنسانٍ في العالم؟!
- ألست تحمل اللمسة الذهبية؟! أما يشبع قلبك؟!
- لا أريد هذه اللمسات. لقد كرهت الذهب. هل أكل أم أشرب الذهب؟ أين ابنتي المحبوبة؟
- ماذا تفضل أيها الملك؟
التمثال الذهبي الذي لا يُقدر بثمن أم الأميرة الصغيرة التي تجري وتلعب، تفرح وتمرح، تبتسم وتعانق، تحب وتُحب؟!
- رد لي ابنتي، وخذ كل ما لدي من الذهب.
- أذهب إلى النهر الذي يجري في نهاية حديقتك وضع يدك فيه، واحضر معك من مياهه. أسكبها على كل ما هو حولك فيعود كل شيء إلى أصله.
جرى الملك إلى النهر وتمم كلمات الملاك. صار يصرخ متهللًا وهو يرى ابنته تعود إلى الحياة، وكل شيء عاد إلى ما كان عليه!
← ترجمة القصة بالإنجليزية هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت: The Golden Touch.
* محبة المال تحول الحياة إلى جمود!
تفقدني طعامي وشرابي، وحبي وراحتي!
* لأقتنيك أنت يا سرّ الحياة!
أنت كنزي، وغناي.
أنت شبع نفسي!
* هب لي حكمتك،
فلا أطلب إلا إرادتك.
أعيش مكتفيًا ومتهللًا بك!
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/vy9rv72