ثم يزعم كذبا على لسان راهب قمران أن الإمبراطور أرسل لجنة للتحقيق في مقتل هيباتيا ولكن البابا كيرلس عمود الدين قام برشوتها! "أن القضاة الذين أرسلهم الإمبراطور للتحقيق فيما جرى لهيباتيا لم يصلوا لشيء، ولم تتم إدانة واحد من قاتليها، وأن الواقعة مرت كأنها لم تكن!"[137].
ويقول على لسان نسطور" وهل أخبرك الحجاج يا هيبا، بأن كيرلس دفع لهذه اللجنة القضائية رشاوى كثيرة، وبذل لهم الهدايا النفيسة حتى ينطمس الأمر؟ نعم يا أبت، قالوا ذلك. وقالوا أيضا أن الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني اكتفي كي يطوى الصفحة الدامية، بإرسال تنبيه إلى الرهبان السكندريين بعدم اختلاطهم بالناس في الأماكن العامة بالمدينة!
وهنا يتجنى د. زيدان على القديس كيرلس عمود الدين ولم يرجع للمصادر الأقدم والتي سجلت الحدث في حينه بل أعتمد مثل الكثيرين من الكتاب الغربيين على ما كتبه إدوارد جيبون (1737- 1794م) في كتابه "تاريخ أفول وسقوط الدولة الرومانية" والذي كان متحاملا على الكنيسة، مثل الكثيرين من كتاب القرن الثامن عشر بدرجة شديدة، والذي بالغ مبالغة شديدة في الإساءة للمسيحية! كما أن د. يوسف زيدان نفسه وصفه في موقعه على النت بالقول "إن كتاب (جيبون) هو اليوم من الأعمال الكلاسيكية التي يرجع إليها القارئ العام، لا المتخصصون. فقد عاش مؤلفه في القرن الثامن عشر واجتهد في التأريخ لانهيار الرومان، فصار كتابه مشهورًا في زمانه. ولكن في زماننا هذا، هناك دراسات أخرى أكثر تقدمًا وتخصصًا. مما يجعل كتاب (جيبون) عملًا ممتعًا لعموم القراء، لا مرجعًا لأساتذة الفلسفة. إذًا كان على د. زيدان أن يرجع للمصادر الأقدم لو أنه كان يريد أن يقدم الحقيقة كما حدثت، ولكنه وللأسف وجد ضالته في كتاب جيبون الذي يرى هو نفسه أن هناك دراسات أخرى أكثر تقدما وتخصصًا منه! إلا يدل ذلك على تناقض واضح وميكيافلية في تناول الحدث؟!
وعند الرجوع لأقدم مصدر تاريخي للحدث والذي دونه المؤرخ الكنسي سوقريتس من القرن الخامس، وهذا المؤرخ كان أقرب للنسطورية وكان متحاملًا بشدة على القديس كيرلس بسبب مواجهته للهرطقة النسطورية، ومع ذلك نرجع إليه لأنه المصدر الأقدم في هذا الحدث والذي سجل بتفصيل لا يخلوا من تحيز ضد كنيسة الإسكندرية، ومع هذا لم يشر من قريب أو بعيد لأي دور للقديس كيرلس، وهذا نص ما قاله: "أنها (هيباتيا) سقطت ضحية للغيرة السياسية التي سادت في ذلك الوقت لأنها كانت تقابل أُورستٌس كثيرا وشاع بين عامة المسيحيين أنها هي التي تمنع أُورستٌس من استشارة البطريرك وبسبب هذه الغيرة أسرع بعضهم وعلى رأسهم قارئ يسمى بيتر وهي في طريقها لمنزلها وجروها من مركبتها وأخذوها لكنيسة تسمى قيصرون حيث قتلوها ومزقوا جثتها إلى قطع وأخذوها إلى مكان يدعى سينارون وأحرقوها"[138].
ويؤكد جون أسقف نوكيو (John of Nikiû) من القرن السابع، والذي كان يحتفظ بتقليد قبطي قديم، نفس التفصيلات ولكن يعلل سبب ذلك بأنها كانت تشتغل بالسحر، وهو أيضًا لا يشير لأي دور للقديس كيرلس في ذلك، فيقول: "في تلك الأيام ظهر في الإسكندرية فيلسوفة وثنية تسمى هيباتيا وقد كرست كل وقتها للسحر والإسطرلاب والآلات الموسيقية فأغوت أناس كثيرين بمكائدها الشيطانية... فنهض جموع من المؤمنين بالله تحت قيادة القاضي بيتر... وبدئوا يبحثون عن المرأة الوثنية التي أغوت شعب المدينة والحاكم بفتنتها. وعندما علموا بالمكان التي كانت فيه فتبعوها ووجدوها... وسحبوها حتى وصلوا بها إلى الكنيسة العظمى المسماة بقيصرون. وقد كان ذلك في أيام الصوم، فمزقوا ملابسها وجروها... في شوارع المدينة حتى ماتت وحملوها إلى مكان يسمى سينارون (Cinaron) وأحرقوا جسدها بالنار"[139]. وفي سنة 1990م كتب كل من Soldan and Heppe يقولان أن هيباتيا قد تكون الساحرة الأولى الشهيرة التي عانت عن طريق السلطات المسيحية[140].
وقد أنتشر بعد موتها خطاب مزيف نشره المؤرخ الوثني داماسيوس (458 – 538م)، والذي كان يكره القديس كيرلس بسبب موقفه من الوثنية، والذي كان "متلهفا لإثارة فضيحة موت هيباتيا"[141]، والصق فيه تهمة قتلها بالقديس كيرلس! وكان هو المؤرخ القديم الوحيد الذي زج باسم القديس كيرلس في الموضوع[142]!
ويبدو أن من جاء بعده مثل جيبون (Edward Gibbon) وأعداء المسيحية من الملحدين مثل فولتير الذي كما يقول د. مراد وهبه: أنه استعان بصورة "هيباتيا" للتعبير عن اشمئزازه من الكنيسة ومن الدين الموحى (يقصد: الموحى به!) وبرتراند رسل الذي" وصف جيبون لقتل "هيباتيا" وقال معلقا بامتعاض إن "الإسكندرية، بعد هذا الحادث، خلت من متاعب الفلاسفة". وقال جيبون "انتشرت شائعة بين المسيحيين أن ابنة ثيون (Theon) كانت العقبة الوحيدة بين الحاكم ورئيس الأساقفة؛ وأن هذا العائق أزيل سريعًا. ففي اليوم المحتوم وفي الموسم المقدس للصوم الكبير حُملت هيباتيا من مركبتها وجردت من ملابسها وجروها إلى الكنيسة وذبحت بطريقة غير إنسانية بأيدي بطرس القارئ وحشود متوحشة متعصبة بلا رحمة وكشط جسدها من عظامها بأصداف المحار وسلمت أوصالها المرتعشة للهب"[143].
ويقول كريستوفر هاس في كتابه "إسكندرية في القدم المتأخر" أن الكُتاب الذين كتبوا عن مقتل الفيلسوفة الوثنية هيباتيا كتبوا تبعا لثقافتهم ونظرتهم الحضارية، فقد كتب جيبون رأس العقلانية الغربية وضد المسيحية أن تعصب كيرلس وجماعته الإسكندرية تطلب "التضحية بعذراء اعترفت بالديانة الإغريقية وزرعت الصداقة مع أُوريستُس"، في حين أن تشارلز كنجزلي تكلم عنها كمناظرة أكثر منها للمصادر القديمة، في حين أن المدافعين عن كيرلس وضعوا اللوم في قتلها بعيدا عن البطريرك إلى العناصر التي لم يكن هناك سيطرة عليها في الإسكندرية، ولكن أكثر المؤرخين المدققين اختاروا أن يتبعوا تفسير سوقريتس الفلسفي اللاهوتي لذا وصفوا هيباتيا "كضحية للغيرة السياسية التي كانت سائدة في ذلك الوقت". ففي نظر سوقريتس كان مقتل هيباتيا يعتبر ضروري لأنها كانت تقف كحجر عثرة في طريق الصلح بين كيرلس وأُورستُس. بل ويؤكد كريستوفر هس على أن سوقريتس لم يكن منزها أبدا من التحيز في تقديمه للحقائق عن كيرلس بسبب حقده على كيرلس لاضطهاده للنسطوريين [144].
أما العالم الإنجليزي والمؤرخ والروائي وأستاذ الجامعة تشارلز كنجزلي Charles Kingsley (1918- 1875م)، والذي وصف مقتل هيباتيا بأسلوب روائي فقد نفى تماما أي تهمة عن القديس كيرلس بل أنه يؤكد تحذير القديس كيرلس للعامة من الفوضى والمساس بهيباتيا: "أنهم (العامة) يبغضونها، وينسبون إليها جرائم رهيبة. ولقد كانوا يدبرون الهجوم على منزلها في الليلة الماضية لولا خوفهم من كيرلس... ولكن يبدو أن الشعب خشى من غضب الأنبا كيرلس الذي اصدر تحذيره لهم بالأمس أنه أن تجاسر أحد وقام بتعكير الصفو فسيكون نصيبه الحرم والعقاب"[145].
كما أشاع البعض، بدون أي سند أو دليل، أن رهبان وادي النطرون اشتركوا في قتل هيباتيا، وحجتهم في ذلك أنهم جاءوا من وادي النطرون لمؤازرتهم لبطريرك الإسكندرية! وهنا يجب أن نميز، كما يرى العلماء المحايدين، بين الحوالي خمسمائة راهب الذين جاءوا إلى المدينة من صحراء النطرون ليدافعوا عن بطريركهم والحشود المسيحية التي قتلت هيباتيا، فلم ينغمس الرهبان الخمسمائة في قتلها، بل كان اللوم كله يقع على العامة من المسيحيين. ويعلق H. Wace and W.C. Piercy على ذلك بقولهما: "كانت [هيباتيا] معتادة على الاتصال بأورستُس [الحاكم]؛ وهذا أثار العداوة ضدها بين شعب الكنيسة. وكان الاتهام هو أنها كانت السبب في عدم وجود علاقة جيدة بين أورستُس والأسقف (كيرلس). ولهذا السبب أنقاد بعض من المتعصبين السريعي الغضب وراء بيتر القارئ وتأمروا معًا وانتظروها عندما كانت عائدة إلى البيت بعد رحلة ما، وجذبوها من مركبتها وسحبوها إلى الكنيسة المسماة قيصرون (Caesarium)، وعروها وقتلوها بأصداف المحار"[146].
ويقدم J.A. McGuckin في كتابه (كيرلس أسقف الإسكندرية والصراع الكريستولوجي)[147]، مناقشة موجزة عن حادثة هيباتيا ويشرح بمنطقية أن هؤلاء المؤرخين الذين اتهموا القديس كيرلس بقتل هيباتيا يتكلمون عن الأحداث التاريخية خارج سياق الكلام تمامًا وهم مخطئون بوضعهم عبء مقتل هيباتيا على كتفي القديس كيرلس فيقول: "يقول سقراط أن هذه الحادثة لم تلق بأي لوم على كيرلس وكنيسة الإسكندرية، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. ولكن البعض وأشهرهم جيبون الذي يدعي القتل "عمل بطولي لكيرلس- an exploit of Cyril’s" وقد أساء صراحة بهذه الملاحظة عندما اعتبر القتل كعمل تورط فيه هو شخصيًا... وقد عد الفيلسوف الوثني داماسيوس أيضًا الحادثة ونسب اللوم والتواطؤ لكيرلس شخصيًا، ولكنه كان يكتب بعد الأحداث بـ130 سنة وكل روايته متحيزة بوضوح من البداية وكان مغمور بكراهية مرة للطريقة التي قمع بها المسيحيون حرفته وطريقته في الحياة. وقد تلا جيبون تشارلز كنجزلي والذي أعطى اعتبار أكثر للناحية الرومانسية أكثر من الحقيقة في روايتها "هيباتيا" ولم يترك الفرصة لكي يصبغ كيرلس كالبطل الشرير للجزء والكاريكاتير الأسطوري الذي قدمه وأصبح نموذجًا".
وفي خط واحد مع تحليل ماكجوكين يقول ويس وبيرسي: "فيما يختص بتأكيد داماسيوس بأن كيرلس حرض فعلا على القتل... لا يمكن أن نعتبر جملة فيلسوف وثني، عاش بعد الحدث بـ130 سنة وكان يكره المسيحية، بشدة كدليل. ونحن نعتبره مع روبرتسون كانون... كـ"افتراء غير مؤيد"[148].
هذا ما قاله العلماء والمحققون ولكن الدكتور يوسف زيدان انحاز تماما لنظريات أضداد المسيحية وفكرهم المبني على عداء وكراهية شديدة للمسيحية، ولم يرجع للمؤرخين المحايدين، بل قدم أحكام تناسب فكر عزازيله وهوى شيطانه الشرير! وهذا يخرجه تماما من دائرة العلماء الجادين والبحث العلمي السليم ولا يجعل لكتابه أي قيمة علمية على الإطلاق!
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/7bmgfp3