أختار السيد المسيح تلاميذه الاثني عشر "وأرسلهم ليكرزوا بملكوت الله" وقال لهم "وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين قد أقترب منكم ملكوت السموات (103)". وقد أيد كرازتهم بعمل معجزات للبرهان على اقتراب ملكوت الله "أشفوا مرضى. طهروا برصًا أقيموا موتى. أخرجوا شياطين (104)". ثم عين سبعين آخرين وقال لهم أيضًا "وأية مدينة دخلتموها وقبلوكم فكلوا مما يقدم لكم. واشفوا المرضى الذين فيها وقولوا لهم قد اقترب منكم ملكوت الله (105)".
وقد أسس السيد المسيح كنيسته على صخرة الإيمان أنهُ "المسيح ابن الله الحي (106)" ووعد بأنها لن تقهر أبدًا "على هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها"، وأعطاها مفاتيح ملكوت السموات. فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السموات. وكل ما تحله على الأرض يكون محلولًا في السموات (107)". وقد أسماها "كنيسة" وفى اليونانية "أكّليسيا – Ekklesia" وتعنى في العهد الجديد "جماعة المؤمنين – Congregation" وقد استخدمت في ترجمة العهد القديم إلى اليونانية أكثر من مئة مرة للإشارة إلى إسرائيل كشعب الله، ليؤكد أن الكنيسة هي جماعة المؤمنين، شعب الله وإسرائيل الجديد، إسرائيل الروحي التي تضم جميع المؤمنين سواء من الذي كانوا من اليهود أو من الأمم. وأصبحت الكنيسة هي دائرة ومجال عمل الله الفدائي في التاريخ، أي دائرة ملكوت الله ومجاله، ملكوت الله على الأرض.
كان الهدف الأول لوجود إسرائيل كشعب الله المختار هو أن تكون بركة لجميع الأمم بواسطة نسل إبراهيم وإسحق ويعقوب، النسل الآتي الذي سيكون له السيادة، القضيب الذي يأتي من سبط يهوذا، شيلون، والغصن الذي يأتي من بيت داود، المدبر الذي سيولد من بيت لحم، الإله القدير رئيس السلام الذي سيأتي من إسرائيل بحسب الجسد (108)، مشتهى كل الأمم "ويكون أسمه إلى الدهر. قدام الشمس يمتد أسمه. ويتباركون به. كل الأمم يطوّبونه"، "والكتاب إذ سبق فرأى أن الله بالإيمان يبرر الأمم سبق فبشر إبراهيم أن فيك تتبارك جميع الأمم.. لتصير بركة إبراهيم للأمم في المسيح". ولأن اليهود توقعوا أن هذا النسل الآتي والمسيح المنتظر سيكون ملكًا أرضيًا وأنه سيؤسس بهم إمبراطورية عالية ويجعل منهم سادة على كل الأمم. توقعوا أن يقيم لهم إمبراطورية سياسية استعمارية تسود على العالم كله بالحروب وسفك الدماء متناسين أن أهم أسس ملكوت المسيح هي السلام والبر والحق والعدل والوداعة "لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد (109)"، "هو عادل ومنصور وديع (110)". كما توقعوا أن يشبعهم بالخيرات المادية من أكل وشرب دون أن يعلموا أن "ملكوت الله ليس أكلًا وشربًا. بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس (111)" وأن "لحمًا ودمًا لا يقدران أن يرثا ملكوت الله. ولا يرث الفساد عدم الفساد (112)". كما رفضوا فكرة انضمام الأمم إلى ملكوت المسيح وأرادوا ملكوتًا عنصريًا يتميزون فيه على سائر الأمم وحاولوا الحفاظ على تميزهم وتراثهم ومن ثم فقد رفضوا يسوع المسيح ورفضوا الإيمان بأنه المسيح المنتظر لأن الملكوت الذي جاء فيه وكرز به جاء مخيبًا لأمالهم وقرروا قتله "إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به فيأتي الرومان ويأخذون موضعنا وأمتنا (113)".
ولأنهم رفضوا المسيح وصلبوه ومن قبله قتلوا ورجموا وجلدوا الأنبياء الذين أرسلهم الله إليهم، كما قال السيد المسيح في مثل الكرامين الذين قتلوا المرسلين إليهم، فقد رفضوا من الملكوت "أن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره (114)" وكان السيد المسيح قد أعلن أن كثيرين من الأمم سينضمون إلى ملكوت الله "وأقول لكم أن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وأما بنو الملكوت فيطرحون في الظلمة الخارجية (115)". وبكى السيد عليهم وعلى الخراب القادم على أورشليم مدينة الملك ولكنه يُعلم أنهم سيعودون إليه وينضمون إلى حظيرة الكنيسة ودائرة ملكوت الله يومًا ما "يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا. لأني أقول لكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب (116)".
حلت الكنيسة كشعب الله في العهد الجديد محل إسرائيل، شعب الله في القديم، وكما كانت إسرائيل هي دائرة ومجال حكم الله وسيادته وملكوته أصبحت الكنيسة هي ملكوت الله على الأرض، أو بمعنى أدق هي الدائرة والمجال الذي يعمل خلاله ملكوت الله، هي مملكة المسيح الروحية التي آمنت به وتطهرت من خطاياها بدمه فصار أعضاؤها ملوكًا وكهنة في ملكوت المسيح "الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه وجعلنا ملوكًا وكهنة لله أبيه (117)"، مستحق أنت (أيها المسيح) أن تأخذ السفر وتفك ختومه لأنك ذبحت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة وجعلتنا لإلهنا ملوكًا وكهنة فسنملك على الأرض (118)".
وقد بدأت الكنيسة وبدأت الكرازة بملكوت الله بعدد قليل جدًا من التلاميذ الاثني عشر والرسل السبعين وبعض التلاميذ الآخرين، وقد وصفهم السيد "بالقطيع الصغير"، "لا تخف أيها القطيع الصغير لأن أباكم سر أن يعطيكم الملكوت (119)" والمساكين بالروح "ورفع عينيه إلى تلاميذه وقال طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت السموات (120)"، وعلمهم دائمًا أن يصلوا "ليأت ملكوتك كما في السماء كذلك على الأرض (121)"، وأن لا يهتموا بالماديات ولا بالجسديات بل بالروحيات "اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم (122)"، وكشف لهم أسرار ملكوت الله " أعطى لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت الله (123)"، وأعطاهم سلطان الحل والربط كممثلين له "الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء. وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولًا في السماء (124)"، ومغفرة الخطايا" ولما قال هذا نفخ وقال لهم أقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له. ومن أمسكتم خطاياه أمسكت (125)".
وقد وصف هذا القطيع الصغير الذي كان عليه أن يحمل الكرازة بملكوت الله لجميع الأمم والشعوب والقبائل والألسنة بحبة الخردل المتناهية في الصغر ولكنها عندما تزرع تصير شجرة عظيمة تتآوى في أغصانها طيور كثيرة "يشبه ملكوت السموات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله. وهى أصغر جميع البذور. ولكن متى نمت أكبر البقول وتصير شجرة حتى أن طيور السماء تأتى وتتآوى في أغصانها (126)".
ولأن الكنيسة أصبحت، هي، مجال ودائرة ملكوت الله، أو ملكوت الله على الأرض، فقد أصبح أعضاؤها، أعضاء الملكوت، أو كما يصفهم السيد المسيح "بنو الملكوت"، وصار لهم نفس ألقاب "أبناء الملكوت" التي لقب بها، سابقًا، بنو إسرائيل، وذلك إلى جانب الألقاب الجديدة التي صارت بحكم إنمائهم للملكوت، وأهمها "أبناء الله" الذين يصلون لله الآب ويخاطبونه بلقب "أبانا"، "أبانا الذي في السموات". يقول بطرس الرسول بالروح القدس وهو يخاطب أعضاء الكنيسة:
"وأما أنتم فجنس مختار وكهنوت ملوكي أمة مقدسة شعب اقتناء لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب. الذين قبلًا لم تكونوا شعبًا وأما الآن فأنتم شعب الله. الذين كنتم غير مرحومين وأما الآن فمرحومون (127)". وهذا ما سبق وقيل في لبنى إسرائيل في القديم.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/dp8z4gt