الكرازة هي المناداة علنًا بالإنجيل للعالم غير المسيحي، فهي ليست المواعظ الدينية لجماعة مغلقة من المبتدئين، لكنها التبشير العلني بعمل الله الفدائي بالمسيح يسوع، فالفكرة الشائعة عن أن الكرازة هي تفسير الكتاب والوعظ، قد حجبت المعنى الأساسي للكلمة·
أكثر الأفعال المستخدمة في العهد الجديد في اليونانية - لتأدية معنى الكرازة أو البشارة، يعود بنا إلى المعنى الأساسي للكرازة فهو" كيريسو" (Kerysso) أي يعلن أو ينادي وتستخدم نحو 60 مرة، وكان “المنادي” في العهد القديم شخصية مهمة، إذ كان رجلًا صاحب مكانة، يستخدمه الملك أو الدولة لإعلان القوانين والأوامر والأحكام العامة والمناداة بها للشعب. فالكرازة هي المناداة ببشارة الخلاص. لذلك يستخدم الفعل “يبشر” ومشتقاته أكثر من خمسين مرة لتأكيد طبيعة الكرازة·
فيجب التمييز بين الكرازة (كيريجما κήρυγμα: Keregma - Kerygma) والتعليم (didache - ديداكي، ديداخي) فيقول متى البشير: "وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب" (مت 4: 23). ويقول الرسول بولس إن الرب “أعطى البعض أن يكونوا رسلًا، والبعض أنبياء والبعض مبشرين، والبعض رعاة ومعلمين (أف 5: 11). ومع اختلاف الكرازة عن التعليم، فإن لكليهما أساسًا واحدًا، فالكرازة هي التبشير بما فعله الله في المسيح لأجلنا، والتعليم يختص بما يضعه هذا العمل من التزام اخلاقي على المؤمن بالمسيح، وما يجب أن يتحلى به من سلوك·
ورغم حصر الكرازة في هذه الحدود لتأكيد معناها الجوهري في العهد الجديد، فليس معنى هذا أنه لم تكن ثمة كرازة في العهد القديم، فقد كان الأنبياء ينادون برسالة الله بدعوة من الله، فقد أمر الرب يونان أن يذهب إلى نينوى وينادي عليها (يونا 1: 1؛ 3: 1) ويقال عن نوح إنه كان “كارزًا للبر” (2بط 2: 5) واستخدامت الترجمة السبعينية كلمة (Kerysso) "يكرز" بمعنى ينادي (يؤ 1: 14)، "ويعتف" (زك 9:9) و "يبشر" (إش 61: 1) كما أن كلمة “الجامعة” (جا 1:1، 12) تعني من يجمع جماعة من الناس ليخاطبهم ويقول الرسول بولس عن الإنجيل: “الذي جعلت أنا له كارزًا ورسولًا (1تي 2: 7).
لعل أبرز خصائص الكرازة هو أنها إلزام سماوي فيقول الرب يسوع لتلاميذه: "لنذهب إلى القرى المجاورة لأكرز هناك أيضًا لأني لهذا خرجت" (مرقس 1: 38). ويقول بطرس ويوحنا لرؤساء اليهود: “لأننا لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا" (أع 4: 20). ويقول الرسول بولس: “إن كنت إبشر فليس لي فخر إذ الضرورة موضوعة عليَّ، فويل لي إن كنت لا أبشر" (1كو 9: 16).
وليست الكرازة مجرد سرد حقائق أدبية، ولكنها مواجهة الله نفسه للإنسان ليتخذ قراراه، وهذا النوع من الكرازة يلقي مقاومة شديدة، فنرى الرسول بولس يعدد الآلام التي تحملها من أجل الإنجيل (2كو 11: 23-28).
ومن خصائص الكرازة الرسولية، شفافية الرسالة وطهارة الدافع، فحيث أن الكرازة تتطلب الإيمان، فيلزم أن تكون صريحة خالصة، لا تطغي عليها بلاغة حكمة أو فصاحة لسان (1كو 1: 17؛ 12: 1-4) فقد أبي الرسول بولس أن يستعين بالمكر والخداع وغش كلمة الله، بل سعى إلى مدح نفسه أمام ضمير كل إنسان بالمجاهرة بالحق (2كو 4: 2) فإن العمل الأساسي في قلب الإنسان ووعيه، هو الولادة الجديدة التي لا تحدث “بكلام الحكمة الإنسانية المقنع، بل ببرهان الروح والقوة" (1كو 2: 4) بتقديم الإنجيل في كل بساطته وقوته.
تعلن لنا الأناجيل أن يسوع المسيح جاء لينادي بملكوت الله، ويقول الرب نفسه (لو 4: 16-21) إن مجيئه كان إتمامًا لنبوة إشعياء عن مجيء المسيا الذي به يتحقق ملكوت الله، الذي يعني “سيادة الله كملك”، فسيادة الله الأبدية كانت تغزو مملكة قوى الشر، وتحرز النصرة الفاصلة. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى). وكان هذا هو الفحوى الأساسية لكرازة الرب يسوع·
وعندما ننتقل من الأناجيل الثلاثة الأولى، إلى سائر أسفار العهد الجديد، نلاحظ تغييرًا هامًا في التعبير، فعوضًا عن ملكوت الله نجد المسيح هو موضوع الرسالة، فأصبحت الكرازة هي المناداة "بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا" (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 1: 23)، و"الْمَسِيحُ يُكْرَزُ بِهِ أَنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ" (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 15: 12) و"ابْنَ اللهِ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، الَّذِي كُرِزَ بِهِ بَيْنَكُمْ" (رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس 1: 19)، و"نَكْرِزُ.. بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبًّا" (رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس 4: 5)، و"إذ كان العالم في حكمة الله، لم يعرف الله بالحكمة استحسن الله أن يُخلّص المؤمنين بجهالة الكرازة" (1كو 1: 21). وتغيير مركز الثقل في الكرازة، جاء نتيجة تلك الحقيقة الواضحة، وهي أن “المسيح هو الملك لقد انتظر اليهود إقامة ملكوت عالمي شامل يحكمه الله، ولكن كان موت المسيح وقيامته، النقطة الفاصلة في التاريخ البشري، وبإتمام الفداء بموت ابن الله وقيامته، استطاعت الكنيسة أن تكرز -بعبارات صريحة قاطعة- بالمسيح ربًا ومخلصًا، فهو الملك الحقيقي. لقد كانت رسالة الكنيسة هي الكرازة بموت الرب وقيامته وصعوده وجلوسه عن يمين العظمة في الأعالي.
* انظر أيضًا: الكرازة في تاريخ الكنيسة.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/m56s4jw