هنا يحدث خلط بين مفهوم الشخص والطبيعة. لأن الطبيعة هي عاقلةٌ بطبيعتها ويملكها شخص. وقد مَلك الرب الطبيعة الإلهية العاقلة بطبيعتها، فهو بشخصه الإلهي كان يملك الجوهر الإلهي العاقل منذ الأزل. ولما صار إنسانًا، صار يملك أيضًا ذهنية البشر أو العقل البشرى أيضًا لنفس الشخص، فأصبح له فِكر الإنسان وأسلوبه في التفكير وذاكرته أو ذهنية الإنسان بالطبيعة. وله أيضًا ذهنية إلهية أو فكر الله في وحدة غير ممتزجة بين الطبيعتين وخصائصهما وبلا تغيير، ولا تلغى الواحدة منهما الأخرى بسبب الاتحاد.
لذلك عندما قال أنا لا أعرف ذلك اليوم وتلك الساعة، فهذه العبارة ليس بها أية مشكلة. وقد وردت هذه العبارة في إنجيل القديس مرقس بحسب النص التالي: "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد و لا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب" (مر13: 32). فمثلما شرح القديس أثناسيوس أنه بحسب إنسانيته أخلى نفسه ووُجد في الهيئة كإنسان وأخذ صورة عبد. فهو لم يقبل من حيث إنسانيته أن يقتنى معرفة هذا اليوم الأخير؛ متنازلًا عن هذه المعرفة بحسب التدبير إلى أن صعد إلى السماوات ورُفع في المجد.
وقد ورد في الفقرة (45) من رسالة القديس أثناسيوس الثالثة ضد الأريوسيين ما نصه: "المحبون للمسيح والذين يحملون المسيح، يعرفون أن الكلمة قال لا أعرف، لا لأنه لا يعرف، إذ هو باعتباره الكلمة يعرف (كل شيء)، ولكن لكي يظهر الناحية الإنسانية، إذ أن الجهل خاص بالبشر، وأنه قد لبس الجسد الذي يجهل، والذي بوجوده فيه قال بحسب الجسد "لا أعرف".
ولهذا السبب، فبعد قوله، ولا الابن يعرف، وتحدث عن جهل الناس في أيام نوح، أضاف مباشرة قائلًا "اسهروا إذًا، لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم" وأيضًا "في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان" (مت24: 42، 44). ولكن إذ قد صرت مثلكم من أجلكم، قلت "ولا الابن". لأنه لو كان يجهل كإله كان ينبغي أن يقول "اسهروا إذن، لأني لا أعرف، وفى ساعة لا أعلمها" لكن في الواقع ليس هذا هو ما قاله. ولكن بقوله "لا تعلمون" و"في ساعة لا تظنون"، أوضح بذلك أن الجهل خاص بالبشر، الذين لأجلهم أخذ جسدًا مشابهًا لأجسادهم، وصار إنسانًا وقال "ولا الابن يعرف" لأنه لا يعرف بالجسد رغم أنه يعرف ككلمة".([1])
وقال أيضًا في الفقرة (46) من نفس الرسالة :
"عندما سأله التلاميذ عن النهاية، حسنًا قال حينئذٍ "ولا الابن" جسديًا، بسبب الجسد، لكي يظهر أنه كإنسان لا يعرف. لأن الجهل هو من خصائص البشر، ولكن إذ هو الكلمة، وهو الذي سوف يأتي، وهو الديان، وهو العريس، فهو يعرف متى وفى أية ساعة سيأتي، ومتى سيُقال "استيقظ أيها النائم، وقم من الأموات، فيضئ لك المسيح" (أف5: 14). كما أنه إذ صار إنسانًا فهو كان يجوع ويعطش ويتألم مع الناس. هكذا مع الناس كإنسان لا يعرف، رغم أنه كإله إذ هو كلمة الآب وحكمته فهو يعرف، ولا يوجد شيء لا يعرفه".([2])
إذًا عندما يقول: أنا أعرف، يكون بحسب ذِهنيته الإلهية. وعندما يقول: لا أعرف، فيكون بحسب ذهنيته البشرية... من حيث إنسانيته، هو لا يعرف، بدون فصل بين اللاهوت والناسوت.
أُعطى مثلًا بسيطًا : إذا أتى شخص ما على سبيل الفرض وطرق على قبر السيد المسيح يوم السبت بعد موته على الصليب؛ ونادى "يا يسوع" ولم يفتح له أحد. فذهب لحال سبيله. ثم قابل هذا الشخص السيد المسيح بعد القيامة، وقال له إنه طرق على القبر يوم السبت فهل سمِعَه؟ فإذا قال له السيد المسيح: لم أسمع؛ يكون صادقًا لأنه من حيث الجسد لم يسمع. فالجسد مات موتًا حقيقيًا، وبالتالي حاسة السمع الجسدية لم تكن تعمل. وبقوله "لم أسمع" يريد تأكيد موته بحسب الجسد لئلا يظن أحد أنه كان حيًا يسمع الطرقات وهو بداخل القبر. العبارة إذن لتأكيد حقيقة إنسانيته الكاملة. وإذا قال له "كنت سامعًا" يكون صادقًا أيضًا لأنه من حيث لاهوته هو سامع لكل الأشياء... هو صادق في كلامه في كلتا الحالتين.
العجيب في شخصية السيد المسيح؛ أنه كان ميتًا وحيًا في نفس الوقت... ميتًا بحسب إنسانيته، وحيًا بحسب ألوهيته.. هو ميت وحي في آنٍ واحد.. مات حقًا بحسب الجسد وفى نفس الوقت لم يمت حقًا بحسب اللاهوت...
وبالمثل فإنه يعرف حقًا بحسب لاهوته، ولا يعرف حقًا بحسب إنسانيته. ولكن عندما رُفع في المجد؛ دخل ناسوته في حالة التمجّد التي تليق بالابن الوحيد... ولذلك نقول في القداس الباسيلي }وصعد إلى السماوات وجلس عن يمينك أيها الآب ورسم يومًا للمجازاة{... وعبارة "رسم يومًا للمجازاة" تعنى أنه لما رُفع في المجد، انتهت فكرة أنه يُخلى نفسه من بعض نواحي المعرفة إنسانيًا.
وبهذا قدّم لنا القدوة في الاتضاع وعدم البحث عما هو في دائرة سلطان الآب السماوي...
السيد المسيح شابه إخوته في كل شيء ما خلا الخطية. فلو كان قد عرف اليوم والساعة إنسانيًا أثناء وجوده على الأرض؛ فكيف يكون قد شابه إخوته بعد في كل شئ ما خلا الخطية؟!! معنى معرفته اليوم والساعة؛ أن هناك أحد الأمور لم يشابهنا فيها (وهى معرفة اليوم).
ولكنه ارتضى أن يختبر كل ما هو للإنسان بما في ذلك الجوع والعطش وبما في ذلك أيضًا أن ينسب إلى نفسه عدم المعرفة وهذه كانت أكبر ضربة للشيطان أن يقول السيد المسيح "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد و لا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب" (مر13: 32) (انظر نص السفر هنا في موقع الأنبا تكلا) لأن الشيطان قال لا يمكن أن اللوغوس LogoV الذي هو الكلمة الأزلي لا يعرف اليوم والساعة وبهذا شك في ألوهية السيد المسيح وقدرته أن ينتصر على الموت، فأتم مؤامرة الصلب بكل ما فيها من خيانة وقساوة وعدوان.
لقد نسى الشيطان أن السيد المسيح كان يتكلم في هذا الأمر بحسب إنسانيته إذ أخلى نفسه وأخذ صورة عبد "وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (فى2: 8).
[1] (St. Athanasius, Four Discourses Against The Arians (Discourse III), part 45, N.&P. N. Fathers, second series,Vol. IV, P.418 - Sep. 1978
[2]) St. Athanasius, Four Discourses Against The Arians (Discourse III), part 46, N.&P. N. Fathers, second series,Vol. IV, P.419 - Sep. 1978
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/c74phb6