مشكلة العادة عندما تتأصل في الإنسان، أنها تتحول إلى طبع، تشكل وتساهم في تشكيل الشخصية، وتختفي وراء السمات العامة لتلك الشخصية، يقول مار اسحق "تخوَّف من العادات أكثر من الأعداء، أن من يربي عنده عادة، هو مثل إنسان يشعل نارًا بكثرة الوقود، وذلك لأن قوة الاثنين تتقوَّم بالمادة، أما العادة فإنها إذا ما طلبت مرة ولم تجبها إلى طلبها، فإنك تجدها في وقت أخر ضعيفة أما إن صنعت لها ما طلبته فإنها تتقوى في الثانية أكثر مما سلف"(6). وما يُقَال عن الطعام يقال عن الكلام، فالشخص الثرثار والنمام والمترهل، هؤلاء هم أشخاص تكونت فيهم مثل تلك العادات دون أن ينبههم أحد، سواء في المنزل والكنيسة والمجتمع، ويلفت نظرهم وهنا تأتي أهمية النصح المخلص من الآخرين تجاه ما يرونه من عادات ليست حميدة وهكذا تسهم العادة في تكوين الشخصية، يقول مار اسحق "العادات تشجع الآلام والأعمال تؤسس الفضيلة"(7).
وتكمن خطورة العادة أيضا في أنها تحرم الإنسان من عمل الخير، فقد يمنع التدخين شخصًا ما من التناول لأنه لا يقدر أن يمتنع عن التدخين لبعض ساعات وعندئذ يمتنع عن التناول!!! ويمنعه ذلك من الصوم الانقطاعي عمومًا، وقد يمنعه اعتياده على عدم الاستيقاظ مبكرا من التناول أيضًا!! وهكذا تحرم العادة السيئة من النمو الروحي.
وقد يفقد الإنسان مصداقيته في المجتمع بسبب عاداته الرديئة والتي لا تجد قبولًا لدى الآخرين، وقد يفقد وظيفته بل قد لا يستطيع الحصول عليها أصلا بسبب ذلك بل قد تتسبب العادة في اقتراف الخطايا، يقول الأب مكسيموس المعترف "قد تخطئ بسبب قوة العادة وقد تخطئ بسبب نزوة مفاجئة، في الحالة الثانية لم يتعمد الإنسان اختيار الخطية، ولكن ذلك يختلف كثيرا عن الإنسان الذي يخطئ بسبب تسلط العادة، حيث كان يخطئ بالفكر قبل الفعل"(8).
وقد تتسبب العادة في الأضرار بالصحة مثل العادة الشبابية ومعاقرة الخمر وغيرها، والجسد نفسه وزنة من الله يجب أن نحسن استخدامها، بل نقوت هذا الجسد ونربيه (أف 5: 29). وهكذا يمكن أن يهلك إنسان بسبب تأصل العادات الرديئة، وتشترك في تحديد مصيره، يقول الأب يوحنا الدمشقي "الالتصاق بالأمور المادية يولد شهوة وبهجة في الشخص الواقع تحت هذا الرباط، مما يظهر عدم جدوى الاشتياقات الروحية عندما يتحكم فيها الهوى، وإذا اكتسبت بعض العادات الصغيرة اليد العليا من خلال هذا الرباط الغير محسوس، وذلك الإنسان الذي يغلب من هذا لا يدرك بالحس ويكون غير قابل للتقويم فهو ممسوك بقوة من الشهوة المخبأة في هذا الرباط، إلى أن يعينه الله ويفلت منه"(9).
والمَثَل الصيني الشائع يقول:
ازرع فكرًا تحصد قولًا
ازرع قولًا تحصد عملًا
ازرع عملًا تحصد عادة
ازرع عادة تحصد خلقًا
ازرع خلقًا تحصد مصيرًا
يقول القديس أرسانيوس: (بادر باقتلاع الحشيشة الصغيرة التي هي التواني وإلا تأصلت وصارت غابة كبيرة).
ويقول الأب بطرس الدمشقي: "فالعادة إذا رسخت استمدت من الطبيعة قوتها وأما إذا لم تمدها بشيء فهي تضعف وتتلاشي شيئًا فشيئًا، والعادة حسنة كانت أم سيئة يغذيها طول الوقت كما يغذي الوقود النار، ولهذا علينا أن نتوخى الخير ونعمله بكل قدرتنا حتى تتكون العادة، وعندئذ تعمل من تلقاء ذاتها ولا عناء في مجريات الأمور هكذا فاز الآباء في الأمور الكبيرة عبر الأمور الصغيرة"(10).
ويقول أيضًا "إن الله يسبغ على أولاده الخير ولا يحجبه عنهم ضعف الإيمان وسوء النية والعادة الرديئة، الكلب الجريح يلحس (خطامه) ويجد في ذلك عذوبة تلهيه عن وجعه ولكنه لا يدري أنه يلعق دمه، كذلك الشره يأكل ما يعود بالأذى على نفسه وجسده ولكنه لا يأبه للضرر الذي يجلبه على ذاته، وهكذا كل المستعبدين لأهوائهم مصابون بمرض اللاشعور، إنهم بوسعهم بلا شك أن يتوبوا ولكن العادة تجتذبهم ثانية، ولذلك يقول الرب ملكوت الله يغضب (متى 12: 11) لا بالطريقة الطبيعية بل بالتغلب على عادة الشهوات فلو كان الملكوت يؤخذ بالطريقة الطبيعية لما دخله أحد... وهكذا شيئا فشيئا تعمل العادة من تلقاء ذاتها سواء للخير أم للشر. ولو لم يكن الأمر كذلك لما نجا لص يوما بينما الواقع أن لصوصا كثيرين غمرهم النور، فأنظر كم هو طويل ذلك الطريق الفاصل بين اللص والقديس ولكن حيث عكزت العادة تغلبت النية..."(11).
ولو أنعم على الإنسان بشيء من نور المعرفة لاجتهد في تدمير العادة القبيحة ولو نوي ذلك في قلبه لأقبلت النعمة تعمل وتجاهد معه، ولكن الرب يقول أن قليلين هم الذين يخلصون (لو 13: 23، 24) (انظر نص السفر هنا في موقع الأنبا تكلا) فالمنظورات تبدو عذبة ولكنها في الواقع مرة،يُقَال أن أحد الفلاسفة أراد أن يجرب إن كانت التربية والتمرين يمكنها تغيير الطبع والعادة المتأصلة فأخذ خنزيرًا وحممه بالماء وطوق عنقه بطوق من الذهب ووضع عليه ثمين الثياب ثم سار به في الشارع النظيف فسار معه في هدوء وطاعة ولكنه حالما أبصر مستنقعا من الماء الضحل حتى أفلت من الفيلسوف وراح يتمرغ فيه مسرورًا، وأعاده الفيلسوف إلى ما كان عليه من نظافة وسار به فكرر الخنزير ما فعله... انه يشبه الخاطئ الذي يتوب ثم يعود إلى الخطية "كلب عاد إلى قيئه وخنزيرة مغتسلة إلى مراغة الحمأة" (2 بط 2: 22) وحينئذ لا ينفع سوى أن يتحول الطبع إلى نعمة.
_____
(6) بستان الرهبان / ص 235.
(7) بستان الرهبان / ص 235.
(8) الفيلوكاليا - الجزء الثاني / ص 95 - المقالة الثالثة في الحب.
(9) الفيلوكاليا - الجزء الثاني / ص 366.
(10) الفيلوكاليا - الجزء الثالث / ص 27.
(11) الفيلوكاليا - الجزء الثالث / ص 227ـ 228.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/g46sg22